المقالات

مشهدنا وظاهرة النزق الثقافي؟

كلنا يبتسم رضا حين رؤية تلك المقاطع المصورة في الغرب لقوم يدافعون عن ممارسة مسلمين لبعض مظاهرهم الدينية في الأماكن العامة، بل وبلغ ببعضهم إلى الاستبسال بنفسه من أجل ذلك، ونعجب بحجم إيمانهم بحق الآخر في ممارسة حريته طالما وأنها لا تضر الآخر، وحتما فجميعنا تابع بإعجاب لتضامن كثير من الأوربيين بما فيهم الحقوقيين في فرنسا لوقف التشريع الحكومي بمنع لبس المرأة المحافظة للباس البوركيني حال ممارسة رياضة السباحة. إلى غير ذلك من الشواهد العملية التي تعكس حالة الانفتاح على الآخر والقبول به دون تشنج أو عصبية، بالرغم من تزايد حدة الهجمات الارهابية على مجتمعاتهم بوجه عام.

السؤال: كيف بلغ الإنسان الغربي هذا السلوك؟ وكيف بات لديهم مقدرة واسعة على التعاطي مع المُختَلِف بشيء من الواقعية وكثير من العقلية؟

في السياق ذاته، بات الحال سيئا في المشرق العربي جملة، ومنطقتنا الإقليمية بخاصة، بحيث أصبحت تلك المشاهد التي تزدري من الآخر بسبب لبسه، أو بعض مظاهر دينه، هي الأكثر إعجابا وتداولا في قنوات وسائط التواصل الاجتماعي، بل وباتت الحِدَّة في التعاطي مع الآخر المُختَلِف ـ مذهبيا وسياسيا ـ هي السمة الأبرز في كثير من النقاشات البينية ضمن إطار محيطنا المجتمعي العام، على أن الأكثر سوءا حين تشاهد عديدا من مثقفينا وإعلامينا البارزين وقد انخرطوا في ثنايا ذلك المشهد المؤلم، وقد كان ولا يزال يُظن فيهم النأي عن الوقوع في شرك ظاهرة النزق المُستشرية، إن لم يكونوا هو القادة لمحاربتها وتعميم قيمة التسامح والهدوء في النقاش العلمي أو الحياتي سياسيا كان أم اجتماعيا، وفق منهجه وآلياته وأدبياته.

حتما هناك دوافع عديدة تقف خلف تباين مثل هذا السلوك بين قيم الثقافة الغربية ونظيرتها الثقافة العربية، ولسنا هنا في دراسة علمية لتبيان أوجه الإشكال وسبل معالجتها، لكننا مُلزمين بتعليق الجرس للدلالة على عمق الأزمة المُعاشة، لنستطيع إيجاد الحلول، وتحقيق ما نصبوا إليه من سلم مجتمعي هو أولى أولوياتنا.

في هذا الإطار يمكن مناقشة كثير من أطر تعاطي عديد من خطبائنا وبعض العلماء مع عديد من أوجه الخلافات الفقهية والفكرية بحدة ونزق سلبي، وفيه أيضا يمكن مناقشة صور تعاطي عديد من مثقفينا مع قضايا تاريخية وسياسية وحتى أدبية مختلف حولها بتلك الصورة من الحدِّية والنزق السلبي، والشواهد في السياق الأول باتت متمثلة في حالة الفجوة الكبيرة مجتمعيا بين أطياف الأمة المذهبية، وكذلك الحال مع السياق الثاني، الذي كشفت وسائط التواصل الاجتماعي وبعض البرامج الإعلامية حجم الإشكال فيه، جراء تلك التعليقات الغير مُستساغة من قبل من بات يدعي التحليل السياسي، ودون أن يعرف أبسط قواعد اللعبة والخطاب السياسي، ولم يتوقف الأمر عن النموذجين البارزين في حركة التداول المجتمعية، وإنما لحق بنزقهم المهتمين بالشأن الأدبي، وإن كان أخف وطأة وتأثيرا من السابقين.

ما أحوجنا اليوم ونحن نعيش هذا المأزق الوجودي إلى أن ندرك بأن أكثر ما ينقصنا معرفيا كامن في حاجتنا إلى زيادة جرعات الوعي بين أظهرنا، فالثقافة قبل أن تكون معرفة، هي وعي، وهي مساحة واسعة من إعادة التفكير والتأمل، والنظر في ملفات الموروث الفكري برؤية جديدة، والتعاطي مع أي خلاف سياسي بواقعية مُجردة، بعيدا عن تشنجات القراءات السالفة، التي كتبت وفق ظروفها الزمانية والمكانية في الإطار الفكري، وبمنأى عن أي تطرف عاطفي في الإطار السياسي. فهل إلى ذلك سبيل؟       

د. زيد بن علي الفضيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى