المقالات

عيد القرية السروية

 

أوراق لشفيف القرى

عيد القرية السروية يختلف عن أعياد جميع مجتمعات الدنيا.عيد أبيض..مشع..مبارك..
الأطفال يرتلون أناشيد الطهر..
أصابعهم الصغيرة تنـزل منها البراءة..
جبال القرية تلبس قطيفة خضراء بعد مداعبة لطيفة من هتان الخير
صبيان القرية يتمردون على كل القوانين والأنظمة…فقط يهمهم أن ينثروا الفرح والبهجة في جنبات القرية.
أناشيد الطهر…تسقط كالمطر..
تتلقفها أفواه صغيرة….. تصبح كالحليب
تسير المساريب خلف أقدام الأطفال..لك أن تتخيل ذلك..
الأشجار ترقص…والأغصان أيضًا..
الطيور..والشياه تغني..ونبات الطباق اللزج يعقد علاقة مع الشمس خصوصًا في الصباحات الباكرة..
القرية تدخل احتفالية استثنائية..
تمتد الطفولة كالجذور..
المرأة تتحول إلى ضوع ورود والرجل يغدو سنبلة قمح..
القرية تربي أطفالها على الطهر…والنقاء..
القرية زهرة جبلية بيضاء..
للقرية في العيد…غناء جميل. يمتزج مع زقزقة العصافير الملونة..
رائعة القصيدة التي تنشدها القرية..
هي من علم الشاعر الوزن والقافية وبحور الشعر..
هي من علمت النساء كيف يضعن أصابعهن في العجين…ليصبح خبزًا طريًا..
وتزين كفوفها بالحناء لتغدو صائد عشق..
هذبت الرجال وعلمتهم أن النساء أجمل مخلوقات الأرض وأطهرهن..
القرية…هي المدرسة التي لم يُكتب في صدرها حرف واحد.
لم تغب أيام الأعياد عن ذاكرتي…إذ تظهر على شكل باقات من الورد…تلك المساحات الخضراء التي تعتلي الوجوه…وتلك الابتسامات الصادقات التي يراها الجميع كبيرًا وصغيرًا رجلًا وامرأة. يرتقب الأهالي العيد عن طريق المذياع…وما إن يصدر نبأ دخول العيد حتى ينبري البعض إلى أسطح منازلهم ليطلقوا الأعيرة النارية ابتهاجًا وفرحًا وإعلامًا للجميع…فيما يتجمع عدد من الشباب فوق قمم وسفوح الجبال ومن بينها سفح جبل القابل وجبل الحبناء ليشعلوا النيران…ويتناقل سكان القرى الخبر عند رؤية المشاعل.
لليلة العيد بهجة تفوق كل شيء…فرح كالضوء الأبيض تتجلى في تقاسيم الوجوه في طلائع الفجر…إذ يبكر الأهالي وحدانًا وزرافات إلى المشهد “مصلى العيد” الذي يرتقي جبل القردود…تفيض خطبة العيد بكلمات دافئة تحث على التعاون والتحابب إمام القرية بوجهه البهي وعلمه الغزير وفقهه العميق يوصي الناس بنبذ الخلاف ويدعو للتسامح والتواد…بعدها يتجه بعض الأهالي إلى المقابر مقرئين الفاتحة والسلام على الموتى…ارتباط إيماني وروحي لمن فقدوهم في سنوات مضت….استرجعت شريط ذكريات التجوال بين المنازل.. برقت في ذهني صورة صحون صغيرة مليئة بالتمر وقطع الحلوى…بجوارها طاسة مليئة بالسمن يحفها كسر من خبز الحنطة السمراء…تمتد الأيدي لقطع الحلوى التي تروق لها أفواه الأطفال وتسيل لعابهم..انداحت تلك الصورة حين لمحت سوق الأحد برغدان.. لأدخل في صورة تخيلية أخرى…القرية تبتل مفاصلها بالسعادة تهتز لها الأشجار والأغصان والأحجار…ولثوب العيد قصة مازالت تلتمع في ذاكرتي…الثوب سمني اللون…خاطته واحدة من نساء القرية الشريفات…وكان تفصيلها لايخضع لعلم درسته أو مهارة تدربت عليها…بل كان بالوهمة، المقص هو الفيصل وسن ماكينة الخياط يباشر في لملمة قطع القماش.. تارة يكون الثوب فضفاضًا يصلح لشقيقي الأكبر…وأخرى يصل لمنتصف ساقي…المشبك المعدني الصغير يقفل فرجة الصدر الواسعة…يضع الأطفال ثيابهم بجوار فراشهم كأثمن الأشياء في حياتهم وما إن يصيح الديك حتى تبدأ رحلاتهم المكوكية في التجوال داخل منازل القرية…ساعات فقط لتتحول الثياب إلى لوحات تشكيلية من أثار الدهون…وبقايا الإيدام وما تطبعه أبواب وزفر ونوافذ المنازل المدهونة بالقطران الأسود لا يمكن لصابون أبو ماعز أن يمحيها وتظل علامة ثابتة على مدار العام…بقع لا انفكاك منها..
لا نلتزم بوقت محدد…الوقت مفتوح لنا…إلا أننا نترقب أذان العصر…وننتظر أمام المسجد ساعة التسليم…لنخرج بشوق إلى ساحة السوق…فالموعد قد حان لتنظيم عرضة شعبية جميلة…بالفعل وضع الزير في منتصف السوق وبدأ قرعة بعصاتين نحيلتين صلبتين لينتشر صوته مالئًا الشعاب والأودية…عندها ينتظم الرجال على شكل نصف دائرة واسعة، المقدمة للكبار أما المؤخرة فيتناثر الصغار على شكل حبات الذرة المحموسة على صفيح ساخن يقفزون في غير انتظام معبرين عن فرحتهم بطريقتهم القروية البسيطة ويزداد الاندهاش حين سماع صوت بندق النيمس الذي تتناصل جرعاته..كأن ثمة حرب شرسة قامت…ويقف الشاعر كشجرة عرعر في المنتصف يستل كلماته من مخزونه الثقافي والشعبي والاجتماعي لينظمها في شكل محاريف حتى يكتمل بناء القصيدة يردد المشاركون الشطر الأخير…خرصان الشاعر له هيبه إذا وقف، يجمع الحكمة والرأي والطيبة..
كان لعيد القرية فرحة…ومع الأسف تلك الفرحة اغتيلت كحمامة بيضاء تعرضت لقسوة رصاصة طائشة في يوم كانت تتماهى في فضاء وادٍ أخضر..
أيا قريتي هل تعيدين وجهك الطلق هل تمتد أياديك الحانية؟!
هل تغسلين الأصداء العالقة في أجسادنا وتنثرين ابتسامتك كعصافير زرقاء؟ هل تنثرين أشعة شمسك…للحمام…للعصافير…للجداول…للغيوم؟!
إني أشتاق لقطرات…مطرك وغيمك الأخضر…ونهاراتك الملأى بالحبور…وصوت خرصان الذي يمتد كماء الفضة..
كل شيء في القرية يغني…النجوم…الجداول…الشجر…الأبواب المطلية بالقطران…سفوح الجبال المكتسية بالاخضرار…الأطفال.

كل مفردات الطبيعة تغني…أمّا الحكايات تستيقظ من مهاجعها…وتبث الحناجر مواويلها الشجية…وتصيخ الأذان.
وادينا وادي قوب الذي يمتد كغصن عنب لدن يتسع تارة ويضيق تارة أخرى…مياهه الشفيفة تحنو على الحجارة الصغيرة…وتوشوش في آذان المارة…والطيور…تفسح لها بالطيران لتناجي الغيوم البيضاء.
قريتي إذا جاءها المرض أو فقدت عزيزًا تتحول إلى الناي الحزين المثقل بالوجع لتبث من حنجرتها مواويل حزينة تمتزج مع دموع المطر، للقرية قلب شجاع يخشى جفاف ضرع السماء…عندما تتحول إلى لون باهت…إلى خريطة رعب تملأ الوجوه والعيون.
في القرية المطر يغسل كل شيء…يغسل الوجوه…القلوب…أكمام الأزهار…صفائح الأوراق…الغدران…منابت الشجر…سفوح الجبال…تتحول القرية إلى نشيد إيماني مع عزف الرعد ولمع البرق…وبشائر الوجوه مع تراتيل أصحابها…وابتهالاتهم إلى الخالق عز وجل..
في القرية لا ندري من يوقظ الآخر…هل الفجر ببهائه يوقظ العصافير وأكمام الورود…ومنابع الجداول؟
أم أن العصافير الملونة التي تبادر لتوقظ الموجودات التي حولها.
سلام عليك ياقريتي كما كنت، وكما أضحيت..

جمعان الكرت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى