عندما نتحدث عن الحركة الشعرية الشعبية لاسيما ونحن في فصل الصيف فصل كثرة حفلات الزواج وما يقام على هامشها من فلكلورات شعبية كالعرضة والمحاورة على سبيل المثال فإننا نتحدث عن موروث شعبي ممتد عبر قرون مضت، وكان الشاعر في القبيلة لسان حال المجتمع والناطق الرسمي عن جميع ما يتعلق بنشاطها الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، وكان له سطوته في المحافل سواء داخل مجتمعه الذي يعيش فيه أم في أوساط المجتمعات الأخرى في عادات وتقاليد كانت تمارس في أوضاع اجتماعية متنوعة سواء في الحرب أو السلم، كما هو الشاعر الفصيح أيضًا بل وكان الهجاء في الأشعار الشعبية بين الخصوم أشد فتكا منها في الفصيح إلا أن مفهوم الثقافة سواء المؤسسي منه أو الشعبي كان أشبه بالعار أو اللقيط؛ إذ ظلت الثقافة بمفهومها الواسع الفضفاض متبناة من عدة جهات كمفهوم يمرق من تحت عبائته كثير من المناشط التي تعنى بالموروث الشعبي بالذات أو ما يسمى بالحركة الشعرية الشعبية، وهناك منصفون يرون أن هذه الحركة الشعرية هي الأصل في الشعر قبل أن يهتدي اللغويون والنحويون وصناع بحور الشعر الفصيح والأوزان والأنساق الشعرية المختلفة، وهذا فيه صحة لا ريب ولكن بعد أن تأسست الجهات المعنية بالثقافة والشباب والأدب بصنوفه لم تلق الحركة الشعرية الشعبية كمفردة من مفردات المناهج الأدبية الرسمية ذلك الاهتمام؛ لأنها أسقطت من اعتباراتها تلك الحركة الشعرية التعبيرية التي نشأت مع الإنسان دون تبني أي من البشر لها كرافد أدبي يعبر عن آمال وآلام المجتمع. ومع كل هذا التناسي والتجافي من المؤسسات بدأ الشاعر الشعبي يصارع ويقاوم تيارات الإقصاء، وفي ظني أنهم حققوا ما كانوا يريدون الوصول إليه ولو بصورة نسبية، وخاصة في العقود الأخيرة التي استغل المهتمون بهذه الحركة وسائل العصر الحديث المتمثلة في النشر الإعلامي والحفلات الشعبية والمحاورات، وحققوا مالم يكن في حسبان المشرعين للثقافة الأدبية بالذات، ونالت هذه الحركة قسطا كبيرا من اهتمام الشعوب لسهولة الوصول للشاعر الشعبي ومشاركاته المجتمعية ونشره لنتاجه الشعري الذي ملأ أرفف المكتبات؛ كونه لامس جروح غير المنتمين للشعر الفصيح الذي يحتاج لأدوات تتحكم في بنيته اللفظية أمام سيل من الشعر الشعبي بجميع أنواعه سواء النبطي منه أو شعر العرضات الشعبية. ولعلي أسوق مثالا واحدا يعطيك المؤشر الحقيقي لاتجاه المجتمع نحو الشعر الشعبي عندما تقارن بين الحضور لحفلة زواج وبين من يحضر نشاط أدبي في ناد أدبي للاستماع لشاعر فصيح حتى لو أنه من فحول الشعراء فتجد أنه لا نسبة ولا تناسب بين العددين، بل يميل لصالح الشعبي بالتأكيد وكثرة المشاهدين للقنوات الشعبية أمام قلة المتابعين للقنوات الثقافية التي هي أيضا تقف خجولة أمام ما يتم فتحه من قنوات شعبية، وهنا يبرز الصراع بين الحركات الشعرية وتميل الكفة لصالح الشعبية لعدة اعتبارات قد لا يتسع المقام هنا لذكرها وذكر أسبابها ومدخلاتها.
وهناك نسق من أنساق الأدب هي القصة القصيرة، وكانت تسمى بالحكاية أو الروية بتشديد الياء في الأوساط الشعبية، واليوم ظهر منها مولودة جديدة ما يسمى بالقصة القصيرة جدا ( ق ق ج ) هي طبعا الأصل في النسق الأدبي القصة القصيرة التي كانت الرائدة والمستحوذة على المشهد الأدبي القصصي عصورا طويلة، كما كان الشعر كذلك واعتبروه ( ديوان العرب ) ولم تظهر الرواية بشكلها العصري الحديث إلا بعد أن تبنتها جهات غربية، ورصدت لها جوائز ومحافل ثقافية وبدأت الرواية تطغى على القصة وحتى شعراء الفصيح وتحول بعض المهتمين بهذه الأنساق إلى ما قد يطلق عليه اليوم لبعض المنتجات ثلاثة في واحد أو تبني أكثر من نسق أدبي تحت قبة واحدة، فتجد المثقف الأديب يجلس على أكثر من كرسي في لعبة كراسي الميل العالمي الأدبي سواء العربي أو الغربي والأوروبي، وأصبح خراشي فعلا لا يدري ما يصيد وبالتالي راجت الرواية وأصبح الشعر الفصيح في خطر إلا للنخبة وتحولت القصة القصيرة جدا إلى كائن حي جديد سريع التعاطي والنشر، وهو ما يسمى اليوم اختصارا ( ق ق ج ) لسهولة امتطاء صهوته وسرعة ولادته بعد حمله وفصاله بأيام وأسابيع، وزاد على هذا سهولة ترجمة هذا النوع للغات الأخرى وبالذات الإنجليزية وربما الفرنسية، وبالتالي أصبح أمام القاص منهج جديد؛ ليعبر فيه عن كل ما يدور بخلده ويسهل عليه طباعته بحجم الجيب ونشره إلا أن الرواية رغم اتجاه البعض لكتابتها لم ينجح الكثير من المعاصرين في إنتاجها؛ لأنها لا تعتمد على السرعة ولأن مخاضها عسير وبالتالي فبعض من ينتمي لقوائم الروائيين ولدت روايتهم خديجة ومشوهة، ولم يكتب لها الذيوع والانتشار إلا بين أصدقاء التبني لها بدون مماحكة ولا محاكمة أدبية ولعدم امتلاكهم الجيد لأدواتها؛ لأنها تعتمد على تطوير الذات الأدبية أكثر من الذائقة التي قد تخون صاحبها إذا ما استسهل التلذذ بالشهرة قبل أن يتلذذ المستهدفون بما يكتب والنقاد بما يطرح، وسيظل للرواية رموزها في الوقت الذي تحول بعض القاصين رغم نجاحهم في كتابة القصة إلى الغراب الذي قلد الحمامة فضيع مشيته بعد أن فشل في تقليدها وعلى العموم سيظل الصراع بين المهتمين بهذه الأنساق الأدبية، ولن يصح إلا الصحيح بشهادة القراء والنقاد الذين لا ترحم سياطهم النقدية أحدا ممن يمارسون حركة التنقل بين القصة بنوعيها القصيرة والقصيرة جدا وبين الرواية والشعر فليس كل شاعر قاص وليس كل قاص روائي، وتظل الرواية والشعر الفصيح في قمة الهرم الأدبي الذي لا يمكن الارتقاء إلى قمته دونما امتلاك الدليل.
د. عبدالله غريب
تعليق واحد