د. فاطمة عاشور

قنينةُ عطر

 

(الحب حبيسا داخل القلب كالعطر في زجاجة لاقيمة له إلا إذا انتشر )
أسرتني هذه المقولة و عبرت بأناقة عن قناعات اعتقدت بقطعيتها طوال عمري . . كم يثير غضبي ذاك الود المسور داخل قلب مغلق .. لا أفهم مشاعر لايعبر عنها بكلمات أو سكنات أو تصرفات ..
إن كانت القلوب كالقدور و الألسنة مغارفها فأنى لمحب أن يكون جاف الحرف بخيل المعنى ..
لم يصل العلم الحديث بعد لفهم آلية الشعور و كيفية نسبته للقلب .. ذلك الانتساب الذي لا يدرك ماهيته و لا تفسيره.. فما بين شروح و تفسيرات علماء الدماغ و وظائف الاعضاء و تفصيلات علماء النفس حول حقيقة المشاعر المختلفة و كينونتها ..
يقف العلم بكل تطوره العبقري عاجزاً عن إبداء تعليل منطقي لمَ نحب شخصاً و نحجم عن آخر و كيف يصل حب الأم لصغيرها درجة التضحية بالنفس و لماذا يكره أحدهم آخر حتى يقتله ..
و هنا يأتي قارب النجاة من بر المنظور الإسلامي لنحظى بإجابة حيث أنه نسب الألفة و الاختلاف إلى تعارف الأرواح و تنافرها و لتتقهقر جميع نظريات علوم النفس و علوم الطب إلى خانة إعادة النظر و التفنيد فالألفة التي هي احدى أنواع المشاعر قرر الحديث الشريف أنها تأتي تبعا لسيطرة الروح و ما أدراك ما الروح ..يقول الحق (و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) و الروح ذلك السر الخفي الذي يوجد قبل البدن و الذي به تكتسب الأبدان طاقتها و بغيابها تتحول لعجز و لا إرادة ذكر بعض المفسرين أنها تنطبق ايضا على النفس (يا أيتها النفس المطمئنة)
كل الاجنهادات العلمية كانت و ستزال عاجزة أمام هذا الخفي المستتر و سيظل عقل الإنسان قاصرا بقلة علمه عن تفسير ماهيتها ..
إذن المشاعر الإنسانية جزء من تلك التركيبة المعجزة و الغير مدركة مما يجعلها
في ذاتها سراً كبيراً كمحيط استحال سبر عمقه على بشر أو أحجية صعب فك رموزها من قبل بشر..
فمن الصعب أن تجد إنسانا يحمل عاطفة أحادية لا سواها فالنفس البشرية مركبة تركيبا معقدا و الشخص ذاته قد يكون رحوما في موقف و فظا في آخر .. فليس من مخلوق شرير بالمطلق و لا خير بالمطلق إلا من رحم ربي .. لهذا يعتبر المرء الودود الحسن الأخلاق مبشراً بجزاء عظيم في الجنة كون هذا الخلق الحسن يستوجب ضمناً نفي المشاعر السلبية و تحجيم ظهور أثرها في سلوك و كلمات و مظهر المسلم .. فالعنف و البذاءة و النميمة و الخيانة و الكذب كلها آثار و نتائج و ترجمة لمشاعر مكنونة في النفس من كره و حقد و حسد و شر .. و الخلوق ماهو إلا فارس صنديد لجم جماح ذئاب المشاعر فإما سجنها في قضبان نفسه مجاهداً خروجها بين الفينة و الفينة أو حكم عليها سجناً مؤبداً لا إفراج عنه فتظل تصرفاته نظيفة و أقواله عفيفة و ربما وصل إلى أعلى درجات الفروسية فأعدم مشاعر الشر و الحقد و نظف مجاهل نفسه من جثثها النتنة وحول الذئاب خيولاً في نواصيها الخير تظهر شامخة على السطح فلا ترى من ذاك الإنسان إلا طيبا و لاتسمع منه إلا خيرا.. و جوهره في درجة نقاء مظهره ..
ذاك الفارس هو أحد أهل الجنة الذي شرحت صفته السيرة النبوية ..
إذن من الأولى أن نخرج مابداخلنا من مشاعر طيبة في أشكال عدة .. كلمات رقيقة يسكبها زوج في أذن زوجته.. تصرف رائع تسعد المرأة به قلب زوجها .. هدية بديعة شعراً كانت أو نثراً أو وروداً أو خاتماً من ماس يقدمه المحب لمن يحب أماً كانت أو أختاً أو زوجة أو صديقاً أو أخاً أو قريباً أو عامل نظافة أو خادمة .. النسيج الاجتماعي يشمل خيوطاً بشرية و البشر كلهم يشتركون في الاحتياج لحسن الكلمة و لطف الإحساس ..
فامنح و لاتك بخيلاً .. إن تدفق في حناياك للحظة ذاك الشعور المبهج المسمى حباً أو وداً لأحدهم فقلها بلا تردد .. كم ستفرح أمك بكلمة أحبك يا أمي .. و كم ستسعد خالتك بقولك لها انك اشتقت إليها .. و كم ستزهو عائلتك إن عبرت عن سعادتك بهم ..
بدلوا الوجوه المتجهمة و الأقنعة الخشبية بوجوه حقيقية باسمة إذا دخلتم بيوتكم و السلام فعل و لايقتصر على اللفظ .. فانثر السلام أينما حللت بابتسامة و كلمة ودودة جميلة ..

وهج:
الحب قمر ُ ساطعُ بسماء قلبٍ ٍ..
لا تجعله سجناً و صمتُك
السجانُ

الودٌ زهرٌ رائعْ بحقولِ
عشبٍ…
اسقه ماءً فراتاً فتثمرُ
الأغصانُ

الحرفُ سيفٌ إن رُمتَهُ بسجالِ حربٍ…
و الحرف عقدٌ فريدٌ
تصونه الآذانُ

و عطرُ الورود يزول بيسيرِ سكبٍ…
و عطر الكلام يدوم وإن
رحلت الأبدانُ
د. فاطمة عاشور

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button