”أي سياحة محلية تتحدثون عنها أيها السادة؟
لقد عدت للتو من أبها والباحة والطائف (رايح جاي) مع العائلة. والحقيقة المرة أننا نفتقد لمقومات السياحة الحقيقية،“ هكذا علق أحد حضور ديوانية في جدة على النقاش الدائر بيننا، ثم روى لنا تجاربه في رحلته البرية الطويلة التي انطلق بها صباح يوم صيفي حار من عروس البحر مرورا بأجمل وأعلى جبال السروات، في الهدا والشفا، فغابات الباحة، وانتهاء بأعلى نقطة فوق السحاب في سودة عسير. كما روى طريق عودته مرورا بآبار الغميقة الكبريتية بالقرب من الليث، والحالة السيئة التي كانت عليها.
وبقدر ما أبدى إعجابه بالمناظر الطبيعية والأجواء الباردة والتراث العمراني على سفوح الجبال وفي الوديان، تحسر بشدة على تردي خدمات الإيواء والترفيه والتسوق والطعام. فالفنادق والشقق السياحية مرتفعة الأسعار، مقارنة بمثيلاتها في المدن الرئيسية، رغم ضعف مستواها. والمطاعم متواضعة، قليلة التنوع، ضعيفة الخدمة، ويندر أن تجد فيها أقساما للعائلات. أما الأسواق فأسعار الصيف فيها تختلف عن أسعار الفصول الأخرى، وكأنما هناك تسعيرة خاصة بالمصطافين استغلالا للموسم الذي يزيد فيه الطلب وينقص العرض.
الأسوأ من ذلك كله، إنك لو استمتعت بالجو الجميل والمطر والمتنزهات والمحميات الطبيعية يوما أو أيام، فماذا ستفعل بعدها؟ ماهو برنامجك المسائي عندما لم يعد هناك ما تشاهده؟ هل ستقضي بقية الليل في مشاهدة التلفاز بشقة تفتقر إلى النظافة والإطلالة وخدمة الغرف؟ هل ستبحث عن رصيف أو حديقة عامة لتجلس فيها مع العائلة لتناول المكسرات والشاي والقهوة العربية؟ وإن جاز لك ذلك، فهل سيقبل به الأطفال؟
هذه الشكاوي ليست جديدة، فقد سمعتها كثيرا من زوار الجنوب، والمناطق السياحية المحلية، خاصة في المناطق الريفية والمدن الصغيرة. المشكلة، كما شرحت لهم، لها جوانب متعددة. فضعف البنية التحتية والفوقية في بعض المناطق مشكلة في طريقها إلى الحل مع مشاريع الرؤية السعودية ٢٠٣٠، والبلد مقبلة على طفرة سياحية هائلة تضعها على ميزان المنافسة مع أكثر دول المنطقة تقدما في هذا المجال. إلا أن ما أرجوه هو أن نتنبه في إستراتجيتنا السياحية إلى ثلاثة جوانب مهمة، عانت منها السياحة الداخلية طويلا.
الجانب الأول هو اقتصار الموسم السياحي على شهور الإجازة الصيفية، والتي تنحصر بين رمضان وذي الحجة، وتقتصر على شهري شوال وذي القعدة. ولك أن تتخيل معاناة أصحاب المشاريع السياحية من فنادق وشقق إلى ملاهي ومطاعم في بقية السنة. فهناك العمالة ومصاريف التشغيل والصيانة، إضافة إلى تكلفة المشروع نفسه. كل هذا، مع الأرباح، عليك أن تحمله على شهرين فقط.
والحل يكمن في الاستفادة من بقية شهور السنة، بتنشيط السياحة الشتوية، والسياحة العلاجية والنقاهة، وسياحة التسوق والتجارة، وسياحة المؤتمرات والندوات، وسياحة المغامرات كتسلق الجبال والطيران الشراعي والغوص والرياضات البحرية والتطعيس وتزلج الرمال، وسياحة الرياضة التقليدية، كمسابقات كرة القدم والألعاب المختلفة، والسياحة التعليمية لطلاب المدارس والجامعات، والسياحة الثقافية والفنية، كورش وجولات الاستكشاف والآثار والرسم والتصوير والنحت والموسيقى. وهكذا تتسع الدائرة وتزيد الأنشطة وتشغل الموارد السياحية طوال العام.
والجانب الثاني يتمثل في ضعف البنية البشرية، فالسياحة لازالت مفهوم جديد علينا. وكثير من أبناء المناطق السياحية لم يتدربوا أو حتى يستوعبوا هذا المفهوم ومستلزماته. فخدمة الغير في التراث القبلي غير مقبولة، إلا للضيف. والسائح في نظر الكثير هو مجرد ”زبون“. وبالنتيجة، نحتاج إلى العمالة الوافدة في معظم الخدمات. ونظرا لأن الموسم قصير جدا، فمن الصعب استقطاب عمالة متميزة نظرا لكلفتها العالية.
والتثقيف هو أهم وأصعب المشاريع، فالبلدان التي نجحت في السياحة سادت فيها ثقافة الخدمة والضيافة المدفوعة. وتدريس هذه المفاهيم في المدارس والكليات منذ المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة، يساعد بلا شك، كما نحن بحاجة إلى مشروع متكامل ضمن مبادرات الرؤية السعودية ٢٠٣٠ تشترك في تنفيذه كل الجهات المعنية في والمؤسسات العامة والأهلية كالداخلية والإمارات والتعليم والسياحة والبلديات والغرف التجارية ومزودي الخدمة.
والجانب الثالث، هو ضعف الوعي العام. فبعض السياح يسيء استخدام المرافق السياحية، بالتشويه والتخريب والمهملات. يقابل ذلك ردة فعل سلبية من السكان، تنعكس على نظرتهم ومعاملتهم للسائح. كما أن ضعف الإرشاد السياحي والتثقيف الإعلامي يفقد السياحة أحد أهم فوائدها: الاستكشاف والثقافة كالتعرف على التاريخ والمجتمع والمعالم والكنوز التراثية.
الحاجة ملحة هنا إلى تدريب، كالذي توفره مجانا الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني للمرشدين السياحين ومقدمي الخدمات وسائقي سيارات الأجرة، تشترك فيه الجامعات والمعاهد والمدارس والبلديات والغرف التجارية. كما أن على الإعلام دور هام في نشر الوعي والتثقيف ومتابعة الأنشطة السياحية ونقد الأخطاء واقتراح الحلول وتبني المبادرات الهادفة.
عبدالله
السياحة هي نفطنا الأبيض، كما قال رائدها الأول، الأمير خالد الفيصل، وهو هنا لا يقصد السياحة الدينية فقط، والتي تمثل أبرز جوانب الرؤية السياحية، والتي تهدف لرفع عدد المعتمرين من ٨ إلى ٣٠ مليون معتمر، ومضاعفة عدد الحجاج. ولكنه يقصد أيضا ما بدأه في عسير، وتجلت ملامحه أكثر في المشاريع القادمة كجزر البحر الأحمر، ومدينة القدية الترفيهية جنوب الرياض، وتطوير المناطق الأثرية في جدة والدرعية ومدائن صالح.
والمملكة غنية بمواردها التراثية والثقافية والطبيعية، وبعض مناطقها لم نبدأ بعد في تطويرها، كأخدود نجران، والمياه الكبريتية في الليث والحسا، وجزيرة فرسان، وجبل فيفا وصحراء الربع الخالي والنفود وجزر الساحل التهامي والخليج، والبيئة الزراعية والريفية في جيزان والقصيم وتبوك وحائل والأحساء والجوف. كما أن شبكة المواصلات تتقدم بسرعة مع بناء وتطوير المطارات والسكة الحديد والطرق السريعة، وكذلك شبكات الخدمات العامة، كالكهرباء والماء والاتصالات.
وبتنفيذ مشاريع الرؤية للبنية الفوقية من إنشاء عشرات المتاحف والمدن السياحية والترفيهية والفنادق والأسواق، والعمل على تسويق هذه المناطق والمواقع والمشاريع والأنشطة، سنصل خلال أعوام، بإذن الله إلى مرحلة يصبح فيها دخل السياحة أعلى وأكثر استمرارية من دخل النفط المتناقص والناضب في نهاية المطاف.