المقالات

اسرار عشق الإبل وعلاقتها بالفنون

فيما يتعلق بالعلاقة بين الفنون كقراءة ونقد وعشق وتذوق فإننا هنا نقارن من حيث الدوافع الطبيعية والماورائية لذلك العشق، فعلاقة الإبل في تعدد الألوان والخصائص الروحية والنفعية أبلغ في العشق بكل الأبعاد، وقد يتبادر إلى الذهن أسئلة محيرة، مثل: كيف ينشأ العشق للأشياء؟ هل ينشأ من خلال الإنتاج الفكري الخيالي للإنسان شعراً أو نثراً أو رسماً، أم هو انعكاس السلوك البشري والحيواني والطبيعي على مخيلة وعواطف بالإنسان؟ وسنجد أن الناقة وغيرها من الكائنات والمخلوقات مثل الإبل، والصقور، والخيول، هي من استنطق الإبداع الإنساني، فقد تعلم الإنسان تلك الفنون منذ أقدم العصور وهو يرسم بدءًا برسوم إنسان الكهوف أو ما قبل التاريخ وتدرجت الفنون في الرسم على الصخور والنحت وتصوير التماثيل على أشكال لاهوتية في مختلف العصور بدوافع العلاقة مع البيئة والطبيعة التي علمته الأحاسيس والعواطف والألوان وتذوق تلك الفنون، منذ العصور الأولى حتى بداية عصر النهضة حيث بدأت الفنون تأخذ منعطفاً هندسيا وفنياً وتدرج حتى نشأ عن ذلك مدارس لتلك الفنون .

وهناك عشق جعل للفنون قيماً وأبعاداً حتى قفزت أسعار اللوحات إلى مئات الملايين من الدولارات! وكل ما في الأمر أن الإنسان يرسم ليدهش المتلقي ويمنح المشاهد متعة بصرية من خلال تدرج الألوان والظلال والإضاءة وتلك الثقافة البصرية تظهر لنا جلياً لنتمكن من ترجمة لغة اللاوعي لدى الفنان.

وهناك من يقرأ اللوحة بدلالاتها وعلاماتها السيميائية كما يقرأ النص الروائي أو القصيدة المؤثرة فعلى سبيل المثال معلقة امرؤ القيس والذي منها:

لَــهُ أيْـطَــلا ظَــبْـيٍ، وَسَـاقَــا نَــعَــامَــةٍ

وإِرْخَــاءُ سَـرْحَــانٍ، وَتَـقْـرِيْــبُ تَـتْـفُلِ

تجد أنها لوحة فنية لاتقل عن أغلى اللوحات العالمية.

.

.

من مواقف الأوائل الشاعر الشيخ معيض القافري المعروف قديما بشاعر الحكمة وقد وصفه الشاعر الكبير محمد الثوابي المعروف بإبن ثامره فقال :

ماصدق غيرا معيض القافري حنه ضمين وعارف
يحكم المعنى كما ما يحكم البيطار في قنا

والحكيم الشاعر القافري من أبي الحكم الواقعة في سراة النمر الأزدية من قبيلة بني كنانه وكان له جمل يدعى (جعدان)، فقده فترة طويلة ومكث قرابة الشهر يبحث عنه وقلبه يحدثه ان جمله جعدان حيا يرزق ، فلم يتوقف عن البحث حتى عثر عليه في سوق بطحان من بيده (ابيده ) وبينما كان الشاعر القافري وابنه في السوق جاء رجل من البادية يسوق جملا ، فعرف الجمل صاحبه الحقيقي ثم أقترب الجمل من الشيخ وهو مقفّي ومد راسه من فوق كتف صاحبه فالتفت إليه القافري وأمسك
بخطامه وسلم عليه وكان الجمل يحنّ لصاحبه في دهشة كبيرة من الحضور !! ، فقال هذا جملي ولن ادعه يمضي من هنا . ثم نادى عُراف السوق حيث كانت الأسواق في تلك الفترة لها عُراف حتى حضروا فاستدعوا الرجل البدوي الذي قام بإحضار الجمل قالوا ماذا ترى ؟ قال : هذا جملي وقمت بشراءه بحلالي من حر مالي ، قالوا : وانت ياقافري ماذا تقول ؟ فقال : هذا جملي ولن اتركه ابدا ، قالوا للشاعر القافري إذا تحلف اليمين ؟
فقال سجعا جميلا شبيه بسجع سواد بن قارب الدوسي رضي الله عنه وذلك دليل فصاحة ذلك الشاعر الكبير حيث قال :

“والله إنه جعدان ولد الجعده، اللي شق سلاها، ورضع لباها، وسار قبلها ووراها، إنه جملي من بين الجمال، وحلالي بين الحلال”. فدهش الحضور من فصاحة وبلاغة القافري في اليمين، ومعرفته بنسب جمله فقال عُراف السوق للبدوي توكل على الله وابحث عن عميلك الذي باعك جملا مسروقا .
ثم اخذ القافري بخطام الجمل عائدا إلى منزله وفي اثناء الطريق قال بعض رفقاءه : يا قافري الإبل تتشابه ونأمل ان لا يكون اشكل عليك الامر ؟ وذلك لخوفهم عليه من اليمين !
فقال القافري : سنطلقه وندعه يسير ونحن خلفه ولن نرشده إلى الطريق وانظروا إلى اين يذهب واين يبرك ! فإن لم يذهب إلى منزلي فهو ليس بجملي .

ثم اكملوا المسير حتى وصلوا إلى قرى ابي الحكم وسار الجمل وهم يتبعونه حتى برك في منزل صاحبه القافري وهنا اقيمت العرضة حيث كان القافري شاعر موقف ويصنع الحدث ، وعندما اقبل على قومه قال مرتجلا :

البدع
سلام حيّ الله القوم
واللاش يحزى بريقه

الرد
جينا بجعدان مخطوم
من الديار الشفيقة

فاستقبله قومه بعرضة ورقص الجميع ابتهاجا بعودة الجمل جعدان !
ومن الشعراء الشعبيين المعاصرين قال الشاعر عايد بن رغيان الشراري في وصف الذلول:

عيونها جمر الغضا الشلهباني
في جورتاً مابين كيراً وشباب

فقس العلابي ثم عكف الاذاني
راس الخبير اذا وقف واصلح الكاب

مبرومة الفخذين والزور باني
بينه وبين اكواعها قفلة الباب

وكأنك تتخيلها أمام عينيك من جمال الوصف .

وكما أن هنا ما يبهج ويلفت الأنظار من مزاين الإبل، فإن هناك من اللوحات التشكيلية ما يدهش من حيث تأمل المشاهد والإحساس بالمتعة البصرية والقيمة التاريخية وقراءة كل الأبعاد، مثل لوحة الفنان بيكاسو، وتسمى “الجورنيكا” كونه اقتبس وجه الثور الإسباني رمزاً في لوحته وجعل الأهالي يستصرخون ذلك الثور الهائج من التراث الإسباني وكذلك الحصان، ومثله رسامون اتخذوا الثور رمزاً إسبانياً لأنه يحمل سمات تاريخية وشعبية مثل سلفادور دالي خلافاً لبيكاسو من الرسامين العالميين، وتصل أثمان الثيران في إسبانيا إلى مبالغ خيالية بدوافع العشق التاريخي والرياضي، فهي الملهم لهم في ذلك التميز والإبداع تماماً كما كانت الناقة ملهما لشعراء المعلقات والعصر الإسلامي حتى العصر الحديث، وقد أبدعت الفنانة التشكيلية السعودية المعروفة سلمى الشيخ في لوحتها التجريدية الرائعة التي جسدت فيها الإبل وهي تسبح وتعانق الغيوم لتعكس ذلك العشق العجيب لتلك الإبل الصحراوية وقد جعلت منها رمزاً عظيما مخلدة ذلك في إحدى أهم لوحاتها المدهشة.

كما تكتنف مناطق المملكة العديد من الآثار للنقوش والرسوم تحتوي على قافلة من الجمال مرسومة على صخور منطقة جبة ويعود إلى أكثر من 10 آلآف سنة، وهي تعبر عن أهمية الإبل وذلك العشق المتوارث .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى