المقالات

الشرعية من منظور سعودي

..

شرعية الدول والحكومات أصبحت مجالا رئيسا من مجالات العلوم السياسية، وهو المجال الذي يهتم بالأسس والمبادئ التي تمنح الحكومات الحق في ممارسة سلطاتها.

وبخصوص المملكة العربية السعودية نجد أن أغلب الكتابات تدور حول نظريات يحكم من خلالها على الوضع في السعودية بعيون غربية. وفي الحقيقة أن السعودية يجب أن تقرأ من زوايا أخرى متعددة مثل شرعية التوحيد، وشرعية تطبيق الشريعة، وشرعية التنمية وغيرها من المواضيع التي لم تعط حقها الكافي من حيث علاقتها بشرعية الحكم في السعودية.

لذلك سوف أتناول أحد هذه الزوايا بشيء من الإيجاز نظرا لطبيعة المقال وسوف أركز فيه على شرعية التأسيس وتوحيد الجزيرة. ولكن قبل الحديث عن هذه الشرعية يجب التذكير بأن الجزيرة العربية لم تتوحد منذ الأزل وحتى يومنا هذا إلا مرتين حيث كانت المرة الأولى في عهد الرسول ﷺ حين دانت الجزيرة العربية بالكامل لدين الله. أما المرة الثانية فكانت على يد الإمام محمد بن سعود -طيب الله ثراه- حين أيد دعوة التوحيد.

وهنا يجب ان نلاحظ أن الجزيرة العربية في كلا المرتين لم تتوحد إلا على نصرة الدين وإقامة شرع الله، وهذا من فضل الخالق على هذه الجزيرة المباركة، التي ارتبط مصيرها وقدرها بهذا الدين الحنيف. ولكن هناك سؤال آخر يجب أن يطرح: لماذا الجزيرة العربية بحاجة إلى التوحد مره أخرى بعد المرة الأولى؟ وللجواب على هذا السؤال قصة يجب أن تروى: وهي أن الجزيرة العربية وكما هو معروف هي أرض قاحلة غير قابلة للعيش والحياة، وفيها يقول إبراهيم عليه السلام (ربنا أنى اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) هذه الآية تلخص حال الجزيرة العربية التي استمر أهلها بالعيش فيها رغم التضاريس القاسية التي كانت سببا في الكثير من الأحيان في نشوء الصراعات والنزاعات بين سكان هذه الأرض بحثا عن لقمة العيش.

ورغم ذلك توحد هؤلاء السكان وللمرة الأولى، كما ذكرنا في عهد الرسول ﷺ وحينها عم الخير والأمن والأمان أرجاء الجزيرة العربية التي لم تعرف السلام والاندماج في كيان واحد قبل ظهور هذا الدين الحنيف. ولكن ما يجب الإشارة إليه، أن توسع الدولة الإسلامية ووصول الفتح الإسلامي لدول أخرى مثل مصر والشام والعراق وبلاد فارس وغيرها من أصقاع الأرض أدى إلى إهمال الجزيرة العربية وانتقل الاهتمام إلى الأمصار الجديدة حيث الأراضي الخصبة والزراعة المثمرة والأنهار الجارية وغيرها من وسائل العيش والحياة. لهذا يمكن القول إن الاهتمام بالجزيرة العربية بدأ يخف بشكل متصاعد مع كل توسع في الأمصار الجديدة حتى وصل هذا الإهمال إلى ذروته في عصر الدول المتتابعة مثل الأيوبية والسلجوقية والمماليك، وغيرها من الدول التي انتهت بانتهاء الدولة العثمانية.

وهنا يجب أن نلاحظ أيضا أن أغلب هذه الدول هي دول غير عربية، وبالتالي أصبحت العاصمة ومقر الدولة في أماكن بعيدة عن جزيرة العرب فعلى سبيل المثال كانت عاصمة الدولة العثمانية هي مدينة إسطنبول في أطراف أوروبا. هذه العوامل وغيرها أدت إلى دخول الجزيرة العربية في حالة من البؤس وضنك العيش مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الإهمال لم يتم في يوم أو سنة أو عقد من زمان بل تم عبر قرون طويلة من الإهمال تجاوزت الألف عام من تاريخنا الاسلامي، ولك أن تتخيل حال الجزيرة العربية بعد كل هذه القرون من الإهمال والنسيان، دون الحاجة إلى التذكير أن أرض النبوة ومهد الحضارة الإسلامية لا يستحق منهم ذلك.

ومن باب الإنصاف، كان هناك شيء من الاهتمام في الجزيرة العربية مخصص لمنطقة الحجاز فقط نظرا لوجود الأماكن المقدسة، ولكن للأسف حتى هذا الاهتمام لم يتجاوز إرسال كسوة الكعبة مع بعض المساعدات المقدمة من السلطان وبعض الصدقات الأخرى من أهل الخير والإحسان. ومن الممكن القول بأن هذا الاهتمام البسيط بالحجاز والأماكن المقدسة هو من باب إضفاء نوع من الشرعية على تلك الدول.

أما باقي أنحاء الجزيرة العربية فهذه أصبحت في عالم النسيان ولهذا السبب انتشر فيها الجوع والخوف والأمراض كنتيجة حتمية لتلك الظروف، والأهم من كل ذلك انتشار الجهل والخرافات وبعض الشركيات التي تمس جوهر التوحيد والعقيدة الإسلامية؛ نظرا لقلة العلم وقلة عدد الدعاة في تلك المناطق المنسية. أما حال القبائل العربية في هذه الجزيرة فقد عادت إلى سيرتها الأولى من التناحر والاقتتال بحثا عن لقمة العيش.

هذا باختصار حال الجزيرة العربية في تلك الفترة التي يمكن تسميتها بـ(الجاهلية الثانية). تلك الظروف جعلت الجزيرة العربية تصرخ في أبنائها من أجل النهوض بهذه الأرض التي لن تنهض مجددا إلا على يد أبنائها البررة، فلا الترك تهمهم هذه الأرض القاحلة، ولا الفرس مهتمين بصحراء العرب خصوصا بشكلها التي هي عليه في ذلك الزمان. أما الأخوة العرب، وما أدراك ما العرب، فرغم خصوبة أرضهم إلا أن خيراتها وخيرة أبنائها كانوا يُرسلون إلى أماكن الصراع ويزج بهم في حروب السلطان الذي لا يهمه شيء سوى توسيع سلطانه مع الحرص على مكة والمدينة فقط من باب إكمال لوازم الاستعراض كممثل للمسلمين. في تلك الفترة العصيبة نهض محمد بن سعود وأيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب وبتوفيق الله سبحانه سطرا للمجد ملحمة التوحيد، وضربوا أروع الأمثلة في نصرة الدين وإقامة الشرع الحنيف والذود عن العقيدة الصحيحة، وتحت رايتهم توحدت الجزيرة العربية للمرة الثانية بعد فترة الرسول ﷺ.

وتحت رايتهم أيضا نفضت الجزيرة العربية غبار الإهمال بسواعد أبنائها وخيرة شبابها، وتحت رايتهم أيضا عم الأمن والأمان وأصبح هذا الكيان هو الحاكم الشرعي والممثل الوحيد لأبناء الجزيرة العربية، يهتم بشؤونهم، ويرعى مصالحهم، ويحمي ارضهم، وقبل هذا كله يحمي حوزة الدين الذي أهمل مع إهمالهم للجزيرة العربية خصوصا في هذه المناطق. وهنا سؤال مهم يجب أن يطرح: لماذا لم يبادر غير آل سعود لعمل هذه المعجزة؟ لأنه لو فعلها أحد غيرهم لرفعنا له “عقال” التقدير والولاء والاعتراف.

. العجيب انه حتى في الفترات التي بين الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة لم يستطع شخص ان يوحد هذه الجزيرة ويستفيد من التجربة السعودية. في الحقيقة كل قبيلة كانت مشغولة في التناحر مع القبيلة الأخرى في تنافس بغيض على طموحات محدودة. حتى اتى الملك عبدالعزيز الذي استطاع ان يستعيد هذا الكيان ويحقق الديمومة والاستمرارية لهذه الدولة المباركة. ولذلك فإن ال سعود وحدهم دون غيرهم من استطاع ان يوحد هذه القبائل الاصيلة في الجزيرة العربية نحو افق جديد، وعمل استثنائي، ومعجزة سياسية، وضعت هذه الأرض على خرائط الجغرافيا بعد سنوات من العيش خارج صفحات التاريخ وهذا مصداق لقوله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم).

حفظ الله أسرة آل سعود فهم وحدهم من بين أبناء الجزيرة العربية الذين استطاعوا بتوفيق الله أن يقوموا بهذه المعجزة ويغيروا مجرى التاريخ، ولهذا السبب فإن لآل سعود دون غيرهم شرعية إنشاء هذه الدولة من العدم، وشرعية بناء هذا الكيان، ولهم أيضا شرعية الأسبقية في توحيد هذه الجزيرة، ويحسب لهم الفضل بعد الله في ذلك، حيث لم يستطع أحد من البشر أن يوحدها تحت راية واحدة منذ عهد آدم عليه السلام وحتى عهدنا هذا باستثناء الفترة النبوية والخلافة الراشدة وهي فترة خارج نطاق المقارنات نظرا لقدسية الرسول ﷺ. هذا باختصار ما يمكن تسميته شرعية التأسيس وتوحيد الجزيرة التي تعطي دولة آل سعود الشرعية السياسية والقانونية والتاريخية وقبل كل ذلك محبة هذا الشعب مع الولاء والطاعة.

أستاذ مادة النظام السياسي السعودي

جامعة الملك عبد العزيز – جدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button