المقالات

فلسفةُ الدُّعاء

..

حالةٌ وجدانيةٌ تهيمن فيها الروح على الضمير والعقل والوجدان، فتسمو بك إلى أعلى منازل النور الذي لا تبصره بعينك، ولكن تحسه بصيرتك، فتسلم أمرك، وتبوح بسرك لمن لا تراه ولا تسمعه، ولكنه يراك ويسمعك. ومع أنك تعلم بسابق علمه بك، وبالذي جاء بك إليه إلا أن روحك تجذبك إليه جذباً لتنتشلك من كبريائك المزيف، وترتقي بك عن حمئك، وتداويك من عللك، فتعيد إليك توازنك الذي فقدته بسبب غرورك.

إنّه الدعاء، ذاك الباب الذي لا يضيق بأحد، إذ تأخذك العناية الإلهية إلى ركنه الشديد، فتطمئن نفسك، ويهدأ بالك، ويرتاح ضميرك، فترى العسر صار يسراً، والهم أصبح فرجاً، والدمعة آلت إلى ابتسامات، وانقلب القلق إلى طمأنينة ورضا.

 في هذه الكبسولة النورانية اللامتناهية، تقف على حافة النقائض. هو اليقين، والعَظَمة، والقدرة، والجبروت، والرحمة، واللطف، والسلام، وكل الصفات العُلا، وأنت بصغر حجمك ومهانة قدرك ودناءة نفسك. هو الجليل في ملكه، وموكب ملائكته المهيب يحفون من حول عرشه العظيم، يسمعك، وأنت الشاكي طوال الوقت على الرغم من حقارتك، إن مللت لا يمل، وإن تعبت لا يتعب، وفي كلّ مرة يفرح بعودتك مهما بلغ ما حملته على كاهلك من المعاصي والذنوب.

وحين يزعم إنسان أنه امتلك أسباب القوة، وأن في استطاعته تدبير أموره كلها، فإنه- لا شك- واهمٌ، فهي لا تعدو أن تكون أسباباً مادية محدودة جداً أمامَ القوة الإلهية المطلقة، وما الهمّ والحزن والكرب والألم والقلق الذي يعتري الإنسان إلا بعض مظاهر عجزه، لذا فعندما تنزل به نازلة، فإن فطرتَهُ تُوجّهُهُ صوب خالقه، فيجأر بالدُّعاء حتى وإن كان مشركاً بالله، قال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}.

والدعاء أرحب من أيّ سلوكٍ تَعبُّديّ، فبه يستطيع الإنسان أن يقترب من خالقه في أي وقت بما شاء من الكلام أو الصور الذهنية، إذ يمكنه أن يتخيل ما يريد، ويُحدّث ربه به من غير أن ينبس ببنت شفة، قال تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}.

والدعاء الجدير بالإجابة هو ما كانت حاجة الإنسان إلى الاقتراب من خالقه باعثاً عليه، حينئذ سيكون في حالةِ يقظةٍ عقلية وحضور قلبيّ، فيلج حالة وجدانية فريدة لا تكون إلا في الدعاء، ينقطع فيها عمّا حوله من المحسوسات، ويسيطر عليه الذل والانكسار، فيقترب من خالقه، ويستشعر حضرة الإله العظيم، فيخفض رأسه، ويفتح كفيه يستمطر رحماته، فتخشع أعضاؤه، ويخفت صوته، وتفيض عيناه، ويتملكه الشعور بضآلة حجمه أمام الكبير المتعال الذي هو أهل ليقضي حاجته، ويجبر عثرته، وينوله أمنيته.

قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}.

Related Articles

3 Comments

  1. وصف لتواصل روحاني رائع يرقى بالقارئ الى اسمى درجات التواصل بين العبد وخالقه ويعيش جو جميل جدا لا يمكن تسطيره على الورق

    رب استجب دعائنا يا كريم

  2. صدقت ابنة العم لقد أخذتي أرواحنا إلى ربنا فاشتقنا إليه مولانا وسيدنا ورازقنا ومالكنا ، كل شيء نخاف منه نهرب منه ،إلا الخالق عز وجل نهرب منه إليه ، إلهي وسيدي ومولاي أفض علينا سكينتك ورحمتك وسلامك على كل الكون قال تعالى يخاطب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) اللهم أفض رحمتك على الوجود والكون الشاسع وأبعد عنا كل الشرور والأحقاد يا رب.

  3. مقالة رائعة تحاكي الخاطر وصورة توضيحية بديعة لحلة انسانية تمر بنا حين يتملكنا الايمان وتصفواالنفس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button