..
الحمد لله والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ..
فقد يتعجَّب بعض المثقَّفين من وضع عنوان كهذا ، باعتبار أن المضمون التاريخي مسائل علميَّة وفكرية وسياسيَّة ، غارقة في سرد الأخبار والوقائع والأحداث ، ومكثرة من ذكر أحوال الناس والجماعات والشخصيَّات ، فلا علاقة لها بالشأن التربوي ، وهذا قد يبدو صحيحاً للوهلة الأولى ، غير أن تأمُّلاً يسيراً في المصحف الشريف ، يسوق إلى أن المسألة التاريخيَّة في غاية الحضور والشهود ، باعتبارها أداة تربوية من الدرجة الأولى ؛ فقد تناول القرآن الكريم تاريخ الإنسان من بدايات إرادة تكوينه ، وما رافق ذلك من أحداث النشأة الأولى : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً…) (2/30) ، ثم سار به راصداً أحواله في دروب الحياة وأزمانها المتعاقبة ، يتناوله جيلاً بعد جيل ، وقرناً بعد قرن ، يذكر الإنسان في إقباله وإدباره ، في علوِّه وهبوطه ، في رقيِّه وانحطاطه ؛ فيذكر الرسول وقومه ، والطاغية وملأه ، والسلطان وجنده ، ولا يفوت القرآن خبر الوليِّ الصالح ، ولا الشقي الهالك ، حتى المرأة والطفل والحيوان ، يتناول كلَّ ذلك بنهج تاريخي تربويٍّ فائق .
وأعجب من هذا أن يتناول القرآن تاريخ الجماد ، فيقود بالذاكرة التاريخية إلى أصل المادة التي خُلق منها الكون وتطوَّر ، فيذهب بالإنسان في غياهب الوجود الموغلة في القدم ، مما لا يطَّلع عليه إلا الله جلَّ جلاله ، فيقود مخيِّلة الإنسان في ملكوت السماوات وعوالمها ، مما لا يحيط بعلمه إلا هو سبحانه وتعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا…) (21/30) .
وأغرب من هذا أن يتناول القرآن الكريم المستقبل تناولاً تاريخيًّا ، فيصوِّر الأحداث القادمة تصويراً حاضراً وماضياً ، يقود الإنسان ليعيش في باطن الحدث المستقبلي ، بكلِّ تفصيلاته وأحواله : السعيدة والمؤلمة ، اللطيفة والعنيفة ، ثم ينتهي به إلى خاتمة المطاف التاريخي ، لـيُسْلمه إلى مستقرِّه الأخير في الجنَّة أو النار ، ضمن مشهد روحيٍّ فريد ، يختصر للإنسان الزمان بكلِّ أبعاده : الماضية والحاضرة والمستقبلة ، فيعرضه عليه حيًّا كما لو أنه يعيشه بذاته وشخصه ؛ فيعاينه بحواسِّه ومشاعره ، فيتوهَّم النعيم ويتذوَّقه ، ويتوهَّم الجحيم ويتألَّمه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ، وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (39/68- 75)
وما أدلَّ على الحضور التربوي للمسألة التاريخية من هذا الحشد الهائل للقصص القرآني ، الذي حفل به الوحي المبارك ، فرغم الإجمال والاختصار والتعميم الذي اتصفت به غالب الأحكام الشرعية القرآنية ، بما فيها أركان الإسلام الأربعة : الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ؛ فقد توسَّع القرآن الكريم في شأن القصَّة التاريخية كأوسع ما يكون ، حتى إن بعضها عُرض مفصَّلاً ومجملاً أكثر من مرَّة ، يتناول الحدث التاريخي تناولاً تربويًّا ، بهدف الاعتبار والادِّكار والاتعاظ ، الذي يحرِّك النفس من داخلها ، ويحثها نحو التغيير والتجديد ، ويدفعها نحو اتخاذ القرارات المصيريَّة الصائبة : (…فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (7/176) .
إن حجماً كبيراً من القيم الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية : جاءت متضمَّنة في سياق قصصي تاريخي ، يبث القيمة ضمن تفصيلات الحدث التاريخي ووقائعه ، بحيث تُحمل القيم الصالحة للإنسان ضمن تفاعلات الحدث التاريخي ، وعبر ملابسات وقائعه المختلفة .
والمتأمِّل في سورة يوسف عليه السلام ، التي وردت في القرآن الكريم وحدة واحدة ، فتناولت عرض أحداثها التاريخية الشيِّقة متسلسلة عبر عقود من الزمان ؛ فربطت سنوات طفولة النبيِّ بالشباب والكهولة ، وعرضت هزائم الإنسان أمام دوافع الحسد والحقد والشهوة ، في مقابل انتصاراته أمام الفتنة والإغراء والانتقام ، متخلِّلة وقائعها بطائفة من القيم الإيمانيَّة والأخلاقية الرائعة ، التي تصوِّر الحالة الإنسانية في ارتفاعها وعلوِّها ، وفي انخفاضها وهبوطها ، كلُّ ذلك يأتي في سياق تاريخي تربوي ، يهدف إلى إحياء القدوة السلوكية الصالحة ، ويحذر من الأخرى الساقطة : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى…) (12/111) .
وهكذا المسألة التاريخية في القصَّة القرآنية تأتي دائماً محمَّلة بالقيم الفاضلة ، وفي الوقت نفسه محذرة من ضدِّها ، فلا تقابل الإنسان – دائماً – بالتوجيه المباشر ، وإنما تلفت نظره – في كثير من الأحيان – للتأمل في العاقبة التي صار إليها الماضون ، سواء من الفائزين أو الخاسرين ، فقد ورد ذكر ( العاقبة ) في القرآن الكريم قريباً من ثلاثين مرة ، باعتبارها نتيجة حتميَّة لاختيارات المكلَّفين ؛ الراشدة منها أو الضالة ، كما قال الله تعالى : ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون ) (30/9) ؛ فالنص يستثير عقل الإنسان ، ويلفت نظره إلى أهم وأجلِّ أغراضه التي وُجد من أجلها وهي التفكُّر والتأمل ، المفضي بالضرورة إلى الاعتبار والاتعاظ ، المؤدِّي في النهاية إلى اختيار القرارات الراشدة الموفقة .
لقد ارتبط النص القرآني في كثير من الأحكام الشرعية بالوقائع التاريخية ، التي عبَّر عنها المفسِّرون بأسباب النزول ، باعتبار أن القرآن نزل منجَّماً حسب الأحداث والوقائع والحاجات ، يرافق نشأة الجماعة المسلمة الأولى ، ويكلؤها بالرعاية والعناية الربانية ، في كنف المربي الأول محمد صلى الله عليه وسلم : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) (25/32) ، فكيف يمكن أن تغيب أحكام القذف وحدُّه الشرعي عن حادثة الإفك التاريخية ، التي خلَّدت اسم السيدة عائشة – رضي الله عنها – بالعفاف والطهر والسلامة ؟ وكيف يمكن أن ينفصل حكم الشرع في شأن الظهار عن المجادِلة خولة بنت ثعلبة – رضي الله عنها – في مراجعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، في شأن زوجها حين ظاهر منها ؟ وكيف يعزب عن الذهن الارتباط التاريخي الوثيق بين آيات مطلع سورة الأنفال وأحداث غزوة بدر الكبرى ؟ بل كيف يفوت الربط التاريخي التربوي الجليل ، بين خبر غار ثور في حادثة الهجرة النبوية الشريفة ، باعتباره حدثاً تاريخيًّا ، وبين سبب نزول آية سورة التوبة : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (9/40) .
ومن هنا فإن التاريخ التربوي حاضر بقوَّة في كلِّ هذه الأحداث ، يتناول الحدث التاريخي محمَّلاً بالقيم الإيمانية والروحية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية ، ليبثها في روع الإنسان – عبر الحدث ووقائعه وتفاعلاته – منْسابة في سلاسة ويسر ، فتجد القيم الطيبة طريقها إلى سويداء القلوب ، حيث تستقر وترسخ .