المقالات

نظرية النظم … شرحٌ ؟ أم معالجةٌ جديدة؟

>>
اطلعت على مقالة علمية للدكتور حسن إسماعيل عبد الرازق ، رئيس قسم البلاغة في جامعة الأزهر سابقا ، رحمه الله و غفر له و أسكنه فسيح جناته ، و هي مقالة قديمة نشرت عام ٢٠١١م  بعنوان ” الكشف عن أصول كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني” ، و هنا رابطها ( http://www.alukah.net/culture/0/36015/#ixzz4vJ1Ik1ow) .
و قد كان اطلاعي عليها في وقت قريب من طريق الصديق الباحث سلطان مهيوب ، فأردت أن أشارك بوجهة نظري و تصوّري بما أراه واجبي تجاه العلم أولا ، و تجاه الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني ،طيّب الله ثراه، الذي كان له الفضل الكبير عليّ و على كثير من طلاب العلم في تذوّق البيان و الرغبة في كشف أسراره و لطائفه ، و تأتي وجهة نظري هنا في سياق المباحثة العلمية لا في سياق الرد الذي فات أوانه ، بخلاف المراجعات العلمية للمسائل المطروحة فلا يفوت أوانها بالتقادم و بُعْد العهد ، إذ تظل قابلة للنقاش و المطارحة في كل وقت و زمن .
•••••• 
استهلّت المقالة كما هو واضح بأنها  مرتبطة بكتاب الدكتور الذي صدر قبل ثمان سنوات [ من تاريخ نشر مقالته ] بعنوان ( دلائل الإعجاز بين أبي سعيد السيرافي و عبد القاهر الجرجاني) ، و ذكر في المقالة ما موجزه أن عبد القاهر أدار نظريته على أفكار السيرافي و أنه لم يأت بأفكار جديدة ، و بعد مقاربات عقدها بين أفكار الرجلين خلص إلى أن عبد القاهر أهمل ذكر أبي سعيد السيرافي ،بل أمعن في إخفائه لتسلم له نظرية النظم مؤكدا أن هذه النتيجة التي خلص إليها أوضح من أن تذكر ” و هو أن عبد القاهر أراد أن تسلم له نظرية النظم (فلا يُذكَرُ إلا بها و لا تُذكَرُ إلا به)” .
و مع التقدير لجهد د. حسن ، رحمه الله ، الذي بذله في محاولة كشف الأصول  المتعلقة بنظرية النظم و كذلك ما بين خطوات مناظرة السيرافي ومتى بن يونس و بين خطوات كتاب دلائل الإعجاز للجرجاني الذي يرى  أنها حاضرة في ذهن عبد القاهر ، ما جعله يطرح حول ذلك افتراضاته و تساؤلاته حول ذلك ، ثم جزمه بما توصّل إليه من نتيجة لا تتعلّق بالعلم المطروح أو المسألة المعروضة و إنما تتعلّق بالعالم نفسه ، أي أنها تتجاوز الجانب العلمي إلى الجانب الأخلاقي ، و كان الأولى به ، غفر الله له ،  أن يصرف نظره إلى أصول نظرية النظم و مدى استفادة عبد القاهر من السيرافي و مدى توافق و تطابق الأفكار دون أن يصرفه عن ذلك عدم ذكر أبي سعيد السيرافي ضمن من ذكرهم عبد القاهر سواء في أسراره أو دلائله .
و لنا هنا أن نتساءل مع الدكتور حسن باحتمالات أخرى تضع عبد القاهر في موضع المستفيد لا موضع الآخذ على خفية ، و موضع البرىء ، و هو الأصل ، لا موضع المتّهم ، استنادا إلى ما عُرِف من سيرة عبد القاهر و تديّنه ، حتى يثبت دليل علميٌ لا يتطرّق إليه الاحتمال ألبتة ، و سأبيّن هذا في النقاط الآتية :
١ – طبيعة المنهج :
 تحت هذه الفقرة أود التنويه إلى النقاط الآتية :
•إذا سلّمنا أن ما كشفه د. حسن فيما يخص نظرية النظم و كتاب الدلائل إن هو إلا “الأصول” فإن عبد القاهر نفسه لم ينكر أنّ ما هو بصدده من مسائل النظم ليس مما ابتدعه ، و إنما هو مما سبقه إليه العلماء ، و قد أشار مرارا و تكرارا و هو يدير هذه الفكرة و يعالجها إلى ذلك ، فأحالها إلى أصولها عند الجاحظ و سيبويه و ممن سبقه من العلماء و ذوي البصيرة بالشعر ، و من ذلك إشارته إلى ما تعارفه العلماء بينهم من المصطلحات التي هي كالرمز و الإيماء و الإشارة في خفاء تنبيها إلى الخبىء ليطلب ، بحسب تعبيره في مطلع كتاب الدلائل  .
•إذا عُلِمَ هذا ، فإنّ نظرية النظم التي نسبت لعبد القاهر و هو جديرٌ بها ، لم تكن للتتأثّر بذكر السيرافي أو عدم ذكره ، فمعلوم أن عبد القاهر هو الذي قدّم هذه الفكرة في إطارها النظري المكتمل و قام باختبار فرضياتها تحليلا و تفصيلا و تعليلا ، فنتج عن هذا المخاض علم البلاغة الذي امتد لاحقا في تقعيد السكاكي و من جاء بعده ، و هذه هي طبيعة العلم في اتساعه و نموّه و تطوُّر أفكاره و مباحثه ، و إنما تنسب النظرية لمن صنع لها إطارها النظري و أعدّها للتطبيق ، و هذا ما فعله عبد القاهر الذي أضاف إلى التنظيرِ التطبيقَ تحليلا و تعليلا و تأويلا ، فأين هذا عن مجرّد أفكار معروضة في سياق مناظرة علمية ؟ مع عدم التهوين طبعا مما ذكره السيرافي أو تقليله ، لكن القصد هنا إيضاح الفرق بين الأفكار المجرّدة التي يتوارد عليها العلماء و صناعة النظرية ، أو لنقل توسيع الفكرة و الإلحاح في معالجتها في مشروع نظري مكتمل أنتج لاحقا ما أنتج على أيدي من جاء بعده سواء على مستوى التقعيد (السكاكي) أو مستوى التطبيق (الزمخشري).
•أن الأفكار التي أذاعها أبو سعيد السيرافي هي الأخرى أفكار من سبق ، فهي شائعة و متداولة بين أهل العلم ، فمن حق عبد القاهر أن يعود إليها في أصلها ، لأن المسافة واحدة ، بدليل أن عبد القاهر لم يغفل الإحالة إلى سيبويه و لا إلى الجاحظ في أصول الأفكار التي استثمرها في توسيع النظر ، في حين أشار إلى شرح أبي سعيد السيرافي لعبارة سيبويه دون ذكر اسمه لأنه ليس من الضروري الإشارة إلى صاحب شرح مألوف متداول تكفي عنه الإشارة إلى مصدر العبارة المتن في هذه المسألة ،أعني مسألة ( التقديم ) .
•تجرنا الملاحظة السابقة إلى التذكير بأن منهج السابقين في التأليف مختلف عن مناهج التأليف و البحث العلمي في عصرنا ، فلا يصحّ أن نحاكم عبد القاهر إلى منهج لم يكن في وقته ، فقد اعتاد العلماء ، بما صار مألوفا بينهم ، إلى أن تكون الأفكار بينهم شركة يتداولونها في معالجة مسائل العلم و مباحثه دون شرط الإحالة ، و لم تكن إحالات عبد القاهر في أفكاره و مباحثه إلى السابقين كسيبويه و الجاحظ مرادةً للأمانة العلمية التي استحدثت اليوم بعد أن فقدت الأمانة ، و إنما كانت لتعزيز موقفه ، و كان كثيرا ما يعزز موقفه من الأفكار بما يراه أعلى مكانة و أرسخ قدما في المسألة التي هو بصددها ، و ليس هذا تقليلا من أبي سعيد السيرافي ، فيما أظن ، و إلا لكان عَرَضَ لذكره في سياق الخطأ الذي أشار إليه عند تحليل بيت الخنساء ، فلما لم يذكره في الحالين تبيّن أنّه كان يعالج المسألة من زاوية نظره و لا يضرّه استحضار معالجة السيرافي للمسألة نفسها كونه زاد عليها ما هداه إليه ذوقه ، مع أنه لم يذكر السيرافي ، و لم يعرّض به كما فعل ابن جني مع ابن قتيبة عند تحليل الأبيات المشهورة (و لمّا قضينا من منى) .
•إذا وضح أن عدم ذكره السيرافي كان فيما يتعلّق بأفكار مشتركة و شائعة بين أهل العلم السابقين فلا يلزم عبد القاهر شيء علميا تبعا لمنهج السابقين في التأليف ، كما لا يصح لنا أن نستنبط من ذلك تهمة علمية نقيم فيها دعوى على صاحب الدلائل بأنه يقصد أن تسلم له النظرية وحده في تلميح إلى أنّه سارق الفكرة كاملة و كأنّه لم يفعل شيئا سوى الشرح ، مع أن السيرافي هو الأقرب إلى أن يكون شارحا لفكرة النحو كما هي معروفة عند العلماء ، فهو شارح كتاب سيبويه ، أما عبد القاهر فقد كان يؤطر لنظرية في البيان مستثمرا أفكار سابقيه بمن فيهم أبي سعيد السيرافي ، و قد أشار للجميع ضمنا في سياق معالجة كل مسألة يراها تحتاج إلى دعم و تعزيز و لا يكون ذلك إلا في الأفكار التي تؤرّقه ، و ليس ذلك مطردا في كل الأفكار التي هي من قبيل الأفكار المألوفة في مدوّنة العلماء .
•تبعا لما سبق فإن الناظر إلى مشروع عبد القاهر في نظريتي البيان و النظم ، من خلال كتابيه ( الأسرار و الدلائل ) يدرك الجهد العميق الذي قام به عبد القاهر في استخراج نظرية واسعة و مؤطرة ، من الظلم أن تختزل في مناظرة قصيرة لا تعدو أن تكون منتظمة في سلسلة أفكار توازي أفكار عبد القاهر في الدلائل ، إن سلّمنا بذلك و هو موضع نظر ، بما لا يدل على أكثر من أنها من بين ما أفاد منه عبد القاهر كما أفاد من غيره ، فأصول دلائل الإعجاز موجودة أيضا في خصائص ابن جني ، كما هي موجودة من قبل في كتاب سيبويه ، و في كتاب البيان و التبيين للجاحظ ، و في العموم فعبد القاهر دشّن نظريّته من مجموع ما قرأ سواء نسب ذلك أم لم ينسبه ، و قد بيّنت لِمَ لم ينسب عبد القاهر لأبي سعيد السيرافي الأفكار المشتركة بينهما ، ففي ظني و تصوّري للقضية في ضوء طريقة التأليف أن الأمر مرتبط بالموقف من طبيعة الأفكار بين الندرة و الشيوع ، بين ما يحتاج إلى تعزيز و ما لا يحتاج .
•و أضيف إلى ما سبق أن كون دلائل الإعجاز يتضمّن خصما معتزليا ، يحاول عبد القاهر نقض فكرته عن المزيّة في اللفظ ، ربما جعله ذلك يستلهم مناظرة أبي سعيد السيرافي و متى بن يونس في طريقة عرضه لأفكاره مع توسيع النظر و تعميقه كما أشرت ، و تقديم ذلك في إطار نظرية كان لها الأثر ، مع ما قرره في نظرية البيان في الأسرار، في ولادة علم البلاغة في بناء منهجي على يدي السكاكي . 
هذا طبعا إذا سلّمنا بنتيجة التوازي بين المناظرة  و كتاب الدلائل التي خلص إليها الباحث ، و هو ما ستتم مناقشته في آخر هذه المقالة بالتفصيل و التحليل .
•يبدو أن مما غاب عن ذهن الدكتور حسن ، رحمه الله ، أن عبد القاهر كان يعالج مسألة النظم و ليس في باله فيما يبدو ما يعرض للباحثين المعاصرين من سبق علمي ، و ليس هو من وصف عمله العلمي بالنظريّة ، و إنما وصفه بذلك اللاحقون من الدارسين بعد تطور مناهج البحث الحديث ، و جوهر ما حدث مع عبد القاهر البحث العميق و تطوير فكرة النظم التي اكتملت على يديه في بناء علمي دعا من بعده إلى استثمار مشروعه العلمي و تقعيده في علم البلاغة ، و من هنا تم وصف ما قام به بالنظرية العلمية ، فلم يكن عبد القاهر أساسا على علم بالفتوح العلمية التي ستأتي بعده حتى يضنّ بذكر اسم السيرافي من أجل أن تسلم له النظرية كما هو تعبير الدكتور   ، مع خالص تقديرنا لجهده العلمي في الربط بين أفكار عبد القاهر و أفكار السيرافي ، أو بين دلائل الإعجاز و المناظرة التي أوردها أبو حيّان في الإمتاع و المؤانسة . 
                                 •••••
و فيما يلي نناقش نتيجة التوازي بحسب الأفكار المنتظمة كما أوضحها الباحث في نهاية مقالته لنختبر ما انتهى إليه  و نرى هل الأمر وصل إلى حد الوضوح الذي وصل إليه  ؟ أم أن في الأمر متسعا للاحتمالات و التأويلات و المناقشة ؟ 
٢- التوازي بين السلخ و الاستلهام :
 للوهلة الأولى بدا لي من عرض المقالة  لأفكار السيرافي و عبد القاهر في خطين متوازيين أن عبد القاهر سلخ المناظرة سلخا و لم يزد على أن وسّع و شرح الأفكار دون أن يبذل أي جهد آخر ، و هو رأي د. حسن ، فدعاني ذلك إلى العودة مجددا إلى المناظرة في كتاب الإمتاع و المؤانسة لأبي حيان التوحيدي للمقاربة بينها و بين كتاب الدلائل ، فوجدت أن النظر إلى المناظرة في سياقها الكامل يكشف أن الأفكار التي استلّها الباحث في مقالته ، رحمه الله ، كانت مبثوثة في تضاعيفها ضمن حوار جدلي  أكثره مقارنة بين النحو و المنطق و هو جوهر المناظرة ، و لهذا تعرضت المناظرة للحديث عن اليونان و البحث في الحقائق العقلية التي هي شراكة بين البشر و كذلك الأمر في الصناعات المفضوضة على جدد الأرض و عن تباين العقول و اختلافها، و لأن الحديث من جهة السيرافي يتعلّق بالنحو فقد أبان عن معانيه و علاقته بالألفاظ فكانت الأفكار التي وردت في ثناياها و هي كالتالي موجزة في كلمات ( منطق النحو ، اللفظ الطبيعي و المعنى العقلي ، فناء اللفظ و ثبات المعنى ، بناء الاسم و الفعل و الحرف على الترتيب الواقع على غرائز أهلها ،الإعراب و الحركات ، معاني حرف الواو ، اشتمال اللفظ على المعنى المراد و مطابقته للغرض و موافقته للقصد ، تأليف الكلام بالتقديم و التأخير ، توخّي الصواب و تجنّب الخطأ ، التمثيل للكلام بالثوب في نسجه ، بسط المعنى بالروادف و الأشباه و الاستعارات ، حقائق الأشباه و أشباه الحقائق ، شاهد الآية و لا تقولوا ثلاثة ).
و قد حرصت أن أجعلها في عناوين مقتضبة و كما وردت ترتيبا في المناظرة ، و هي تتقاطع مع أفكار عبد القاهر في الدلائل ، لكن السؤال هنا : هل هذه الأفكار من مسلّمات النحو بين العلماء؟ أم هي مما ابتكر السيرافي في المناظرة لتكون خاصة به بحيث لا يشترك معه سواه ، و بحيث لا يصحّ لأحد أن يعالجها من زاوية نظر أخرى أو يبسط القول فيها إلا بنسبتها إليه ؟ 
و سأناقش هنا فقط ما يتعلّق بنظرية النظم و علاقتها بهذه الأفكار مع ربط ذلك بمعالجة عبد القاهر و علاقتها بغير أبي سعيد السيرافي ، لأن ذلك هو ما يكشف عن طبيعة هذه الأفكار إن كانت حاضرة في أذهان العلماء أو أنها من العلم المختص كاختصاص الخليل بالعروض مثلا .
أ –  مفهوم النظم :  
حول مفهوم النظم المتعلّق ببناء الكلام من ( الاسم و الفعل و الحرف ) ، يكفي في هذا أن نشير إلى أن النحو كله قائم على هذه الفكرة و هي شائعة متداولة في متونه و شروحه ، و لكن من المهم النظر هنا إلى صياغة السيرافي لها في حديثه عن مادة النحو اللفظية (الاسم و الفعل و الحرف ) حيث ذكر لخصمه الذي احتج عليه بكفاية هذه المادة و تهذيبها بمنطق يونان ، أنّه ” فقيرٌ إلى وصفها و بنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها ” [ الإمتاع و المؤانسة :ص١١٩]. و كان قد ذكر قبل ذلك ، أنّ “صحيح الكلام من سقيمه يعرَفُ بالنظم المألوف و الإعراب المعروف إذا كنّا نتكلّم العربية ” [ الإمتاع و المؤانسة : ص ١١٤ ] .
و ما ذكره السيرافي مجمل ما هو متداول معروف عند كلّ نحوي يعرف صناعة النحو ، فهو من الشائع في هذا الباب ، فأقسام الكلام : اسم و فعل و حرف ، و طبيعي أن الكلام مؤلّف منها في “نظم مألوف و إعراب معروف” .
و لهذا لا ريب و غير مستغرب أن يقول عبد القاهر في تعريفه للنظم :” معلومٌ أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض و جعل بعضها بسبب من بعض” [ دلائل الإعجاز :ص ٤] .
 و لو وقف عبد القاهر عند هذا الحد لتوقّف عند ما هو مألوف معروف .
ثم أضاف خطوة يشرح فيها هذا “التعليق” بقوله :” و للتعليق فيما بينها طرقٌ معلومة” ، و هذه الطرق المعلومة هي ما هو مقرر في علم النحو ” الطرق والوجوه في تعلّق الكلم بعضها ببعض و هي كما تراها معاني النحو و أحكامه ” [ الدلائل : ص٨].
و بالنظر إلى فرق ما بين السيرافي و عبد القاهر نجد إيغال عبد القاهر في تحليل فكرة النظم و تفكيكها ، و مع ذلك ، فلو اقتصر على هذا الجانب لما أضاف شيئا يذكر على ما هو مألوف معروف ، بيد أنّه لم يكتف بالإجمال دون التحصيل و التفصيل و التعليل ، فعمد إلى مصطلحات عدة ، من بينها مصطلح النظم ، و قام بتحليلها من خلال المقارنة بين استعمالها في الحقيقة و استعمالها في المجاز ، فوجد ” أن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه ، سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها و أنه كما يفضل النظمُ النظمَ و التأليفُ التأليفَ و النسجُ النسجَ و الصياغةُ الصياغةَ ،،،، كذلك يفضل بعضُ الكلام بعضا”[الدلائل:ص٣٥].
فليست المسألة عند عبد القاهر تقتصر على لفظ مجمل أو تعريف و حسب ، و لا حتى على شرح لمبهم ، بل تتعدى ذلك لصناعة نظرية في استحسان الكلام و الكشف عن موضع المزيّة ، و لي هنا أن أستعير قوله كاملا للدفاع عن نفسه ، يقول :” و لو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة :” إنها خصوصية في نظم الكلم و ضمّ بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة أو على وجوه تظهر بها الفائدة” ،….، كافيا في معرفتها و مغنيا في العلم بها لكفى مثله في معرفة الصناعات كلّها” [ الدلائل : ص ٣٦].
فقد ظهر أن عبد القاهر تعامل مع النظم كمفهوم و إطار نظري ، و لم يتعامل معه كلفظ مجمل كما عند السيرافي الذي تشمله عبارة عبد القاهر كما تشمل غيره من العلماء ممن أحال إليهم مثل هذه الاستعمالات في تعارفهم على عبارات بعضها كالرمز و الإيماء و الإشارة في خفاء ، و كانت لفظتا “النظم و الترتيب ” من ضمن العبارات التي عوّل عليها في فهم ما تعارفه العلماء ، و كذلك التأليف و التركيب ، و الصياغة و التصوير ، و النسج و التحبير.
و هذه المصطلحات الثمانية هي التي عوّل عليها عبد القاهر ، و ذكر أنها ” مما قاله العلماء في معنى الفصاحة و البلاغة و البيان و البراعة ” [ الدلائل : ص ٣٤ ] دائرة في ألسنة العلماء بدءا من ابن سلام في الطبقات ، حيث ورد مصطلح “الصناعة” و الجاحظ الذي ورد عنده مصطلح النظم و التصوير و النسج في عبارته المشهورة .
و إذن فما هو مذكور في هذه الفقرة عند السيرافي موجود في تراث أهل العلم قبله و هو متداول في صناعة الشعر و وصف البيان ، و كان الشعراء يصفون الشعر بنظم الدرّ و النسج ، فظهر أن السيرافي ليس منفردا بهذا الوصف ، مع كونه مألوفا كما ذكر .
و أما قوله “وصفها و بنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها” فإشارة إلى السليقة العربية التي هي غريزة و جبلّة في صناعة البيان و صياغته وفقا لأغراضهم و مقاصدهم ، و قد وقف عبد القاهر عند هذا ، و وقف قبله ابن جني ، و صار تراثا مشتركا لا ينسبه أحدٌ إلى أحد كونه من المتداول و المتعارف عليه في الدرس النحوي ، بيد أن ابن جني و عبد القاهر عمّقا النظر فيه معا ، و وصل كلٌ منهما إلى رؤية متفقة من جهة و مختلفة من جهة أخرى ، حيث تتفق في كثير من مباحث علم المعاني و تختلف فيما يخصّ نظم الحروف الذي جعله ابن جني دلاليا و جعله عبد القاهر اعتباطيا ، و قد عرّض عبد القاهر بابن جني دون أن يذكره ، فالأمر ليس متعلّقا بالسيرافي وحده ، حيث ذكر أنه “مما يجب إحكامه ،…، الفرق بين قولنا (حروف منظومة) و قولنا (كلم منظومة)” [ ينظر معالجته لهذه الفكرة ، الدلائل :ص ٥١].
و بالمناسبة فلو قال قائل إن أثر ابن جني على عبد القاهر كان أكثر من غيره بما في ذلك سيبويه و الجاحظ لما كان مجانبا للصواب ، فطريقة تفكير عبد القاهر في أبواب النظم أشبه بطريقة ابن جني و بينهما رباط عميق و وثيق في طريقة التفكير و التحليل اللغوي .
ب – توخًي المعاني :
 مما قرره السيرافي أن المطلوب في معاني النحو توخّي الصواب و تجنّب الخطأ ، و قد ذكر ذلك في سياق إشارته إلى تأليف الكلام بالتقديم و التأخير ، و هذا لاشك في أنّه جزء يسير مما قرّره عبد القاهر فيما وصفه بـ “توخّي معاني النحو و أحكامه “، و التوخّي عند عبد القاهر أبعد مرمى من الصواب و الخطأ ، إذ يتجاوز ذلك إلى الفرق بين الصواب و الأصوب بحيث “تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته و تختار له اللفظ الذي هو أخصّ به و أكشف عنه و أتمّ له و أحرى أن يكسبه نبلا و يظهر فيه مزية” ، و هذا قدرٌ زائد على النحو و أحكامه ، بحيث يقود التوخّي إلى تجاوز النحو ، الفرق بين الصواب و الخطأ ، إلى البلاغة ، الفرق بين الصواب و الأصوب .
ج- الثوب المستعار :
 من أهم ما لفتت إليه المقالةُ ما ذكره السيرافي من تشبيه تأليف الكلام بنسج الثوب و بلاغته بقصارته و رقة سلكه برقة لفظه و غلظ غزله بكثافة حروفه ، و مجموع ذلك ثوب و لكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه .
 و في هذه الفكرة يظهر أن السيرافي وضع يده على زيادة تفصيل فيما يخص صناعة الكلام ما يرجّح عندي أن عبد القاهر إن كان وقع عليه قد أفاد منه في التحصيل و التفصيل ، بيد أن هنا سؤالا مهما حول تشبيه الكلام بالنسيج يتعلّق بعلاقة عبد القاهر بهذه الفكرة : 
هل بالضرورة أن يكون طريق عبد القاهر إلى هذا الربط بين الكلام و النسيج هو السيرافي ؟ أم أن ثمة من سبق السيرافي إليه ؟
 لقد ذكر الجاحظ أن الشعر ضربٌ من النسج ، و شاع بين النقاد أن الشاعر كالنسّاج ، كما عند ابن طاطبا في عيار الشعر ، و قد أوضح عبد القاهر دون أن يذكر اسما بعينه أن النقاد وصفوا الكلام بالكسوة الفاخرة و بالنسج المحكم و هذا الأمر معروف في لغة النقاد القدماء و لا يبعد أن يقع على هذا الوصف و يتوارد عليه غير واحد ، فليس فيه دليلٌ قطعيّ أنّ عبد القاهر أخذه من السيرافي و أمعن في إخفائه ، و إن كان عرضت له المناظرة و أفاد من السيرافي فليس بالضرورة أن يحيل إليه كون هذا التشبيه مشتركا بين النقاد و علماء اللغة على السواء ، فقد ورد على لسان الأصمعي حين وصف شعرا بالديباج الخسرواني ، و لهذا لم ينكر عبد القاهر أنه أفاد من مصطلحات العلماء التي يصفون بها الفصاحة و البلاغة و البراعة و البيان .
و في الجملة فإن إفادة عبد القاهر من السيرافي في هذا و في غيره واردة و هي من ضمن الاحتمالات الراجحة لا المرجوحة ، لكن أن يترتّب على هذا الاحتمال نتيجة حاسمة تطعن في أخلاق الرجل بدعوى أن “تسلم له نظرية النظم فلا تذكر  إلا به و و لا يذكر إلا بها ” و يكون ذلك واضحا لا يقبل الجدل ، فهذا ما يأباه العقل بمجرد أن يتلقّى عن عبد القاهر مباحث النظم  التي تتجاوز الشرح و الترتيب إلى التركيب و التفصيل و التحليل و التعليل ، و إلى إضافة أفكار جديدة في ثنايا النظرية لم يكن علم البلاغة ليكون بهذا التأصيل لولا ما بذله من جهد في تفجير ينابيع من سبق من العلماء .
د – معنى المعنى :
 من الأفكار الجديدة التي طرحها عبد القاهر فيما يظهر لي فكرة معنى المعنى ، و هي نتاج تحرير عقل عميق في بناء المعاني الداخلية ، و لأن مدار هذه الفكرة يدور حول ما سماه عبد القاهر بأقطاب المعاني : التمثيل و الاستعارة و الكناية ، و هي التي تدل على معانيها بطريق الإرداف ، أي أن يدلّ اللفظ على معنى فيدلّ المعنى الأول على المعنى الثاني ، و قد ربط عبد القاهر بينها و بين المعرض الحسن و الكسوة الفاخرة ، و هي غير النسج و الصياغة و السبك .
 و قد جعلها  د. حسن ،رحمه الله ، موازية لعبارة السيرافي ” حقائق الأشباه و أشباه الحقائق ” بسبب أنها متعلّقة بمذهب” الروادف الموضّحة و الأشباه المقرّبة و الاستعارات الممتعة ” ،و هي و إن كانت كذلك من حيث أن الباب هو الباب ، إلا أنّ معالجة عبد القاهر لها تختلف اختلافا عميقا يجعلها كأنما هي باب آخر ، و هذا يدل على عمق تنظير عبد القاهر ، فقد ورد في عبارة السيرافي :” فأمّا إذا حاولت فرش المعنى و بسط المراد فاجْلُ اللفظ بالروادف الموضّحة و الأشباه المقرّبة و الاستعارات الممتعة ” فالأمر عند السيرافي تجلية و توضيح للمعاني عن طريق التشابه الذي بين حقائق الأشياء ، و هذا معنى “حقائق الأشباه و أشباه الحقائق” ، لكن يبدو أن طريقة التعبير عنها بأسلوب المزاوجة أو العكس و التبديل ، جعله يعتقد أن عبد القاهر ربما سلخ فكرة معنى المعنى منها لما في العبارتين من شعريّة ظاهرة ، و الأمر ليس كذلك لمن تأمّل ، فعبد القاهر استطاع بتحرير فكرة معنى المعنى و تحقيقها أن يفتح بابا نظريا كبيرا قسيما لباب صناعة المعنى هو باب “الصنعة في إثبات المعنى” ، و بهذا التحرير الدقيق يمكن القول إن هذه فكرة جديدة لم يُسبق إليها عبد القاهر حتى مع افتراض استفادته ممن سبقه في تحريرها ، لأن طبيعة الأفكار أن تكون ذات أصول و نسب بالمعرفة و إلا فلا قيمة للجديد المنبتّ من كل أصل و كل جذم .
هـ – آية التوحيد :
مما عزز فكرة التوازي بين أفكار السيرافي و أفكار عبد القاهر في نظر  د. حسن أن عبد القاهر عالج هو الآخر آية { و لا تقولوا ثلاثة }، التي وردت في آخر المناظرة ، و هو ما جعله يتتبع تسلسل الأفكار ليخرج بنتيجة أن ترتيب أفكار المناظرة حاضر في ذهن عبد القاهر ، فهل يكفي ذلك للجزم بهذه النتيجة التي بني عليها اتهام عبد القاهر بأنه يريد أن تسلم له نظرية النظم حين أمعن في إخفاءاسم السيرافي ؟
 نحن نعلم أن العلماء يتداولون بينهم الشاهد الواحد في معالجة المسائل و ربما اختلفت زاوية النظر ، لأن بعض الشواهد مرتبطة بإشكالات عقدية أو مذهبية ، فلا عجب أن يتوارد عليها العلماء أو يتداولوها ، أو حتى يأخذ بعضهم من بعض الشواهد دون ذكر ، و غاية ما في هذه المسألة أنها تحمل قرينة على الاستفادة أو الاطلاع على ما عند السابق و حضوره في الذهن ، و قد عالج عبد القاهر هذه الآية في سياق حديثه عن جملة آيات متفرّقة يبيّن من خلالها أن الذي وسّع مجال التأويل و التفسير “أنّك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة من غير أن تغيّر من لفظه شيئا” [ الدلائل : ص ٣٧٦ ] و من هذا الباب انتقل إلى باب الحكاية ، و كانت أفكار عبد القاهر عن صورة الكلام تتدرّج من السلخ إلى الاحتذاء إلى الحكاية في ترتيب منهجي مؤطر .
و – عود على البدء :
أخيرا مما لفتت إليه المقالةُ بعض عبارات في مقدمة الدلائل جعلها قرينة له فيما ذهب إليه و في ظني أن الاستناد إلى عبارات الجدل و الحجاج و قبل ذلك طلب العون و السداد لا يمكن تفسيره بأكثر من معجم لفظي و طرق تعبير تشيع في عصور الجدل و المناظرات العلمية و عبد القاهر لم يكن بعيدا عن أجواء الجدل العلمي و الخصومات بين المذاهب بدليل أن كتاب “دلائل الإعجاز” يتضمّن قارئا جَدِلا و محاورا معتزليّا يسعى عبد القاهر إلى إقناعه و نقض ما يراه مخالفا لما ذهب إليه ، و لا بأس أن يكون قد جرى في ذلك على سبيل من سبقه بمن فيهم أبو سعيد السيرافي في مناظرته .
                                   •••••
 و السؤال هنا ..  هل لو ذكر عبد القاهر اسم السيرافي و عرض مناظرته كاملة أثناء معالجته العميقة و تحليله الثري المدعوم بالشواهد القرآنية و الشعرية ، و قبل ذلك بالربط بتراث أهل العلم ، هل ستتأثر نظرية النظم في نسبتها إليه ؟ و هل سيتغيّر موقفنا من جهد عبد القاهر في تأسيس علم البلاغة ؟ . الإجابة ، بكل تأكيد ، كلا ، و غاية ما في مقالة د. حسن عبد الرازق  جهده المثمر في الوصول إلى بعض أصول كتاب دلائل الإعجاز متمثلة في هذه المناظرة .
و يبقى السؤال  : لِمَ لم يذكر عبد القاهر اسم أبي سعيد السيرافي كما ذكر سيبويه و الجاحظ و أبا علي الفارسي و غيرهم ؟
هل فعلا يريد أن تسلم له نظرية النظم ،و قد بان لنا من تحليل موجز و بسيط مع ترك أفكار عديدة لم نأت عليها، أن معالجة عبد القاهر تختلف اختلافا بيّنا في الغاية و طريقة التفكير و التنظير و ما خلص إليه من النتائج ؟
 الذي يظهر لي ، و الله أعلم ، أن عدم ذكر أبي سعيد السيرافي يرجع إلى اكتفاء عبد القاهر بما نقله عن سيبويه ، إذ رجع إلى أصول المسائل عند صاحبها ، كما أن موقفه من عدم ذكر الاسم ينخرط في نسق عدم ذكره ابن جني و عبد الجبار في التيّار الاعتزالي الذي يناقش عبد القاهر أفكارهم ضمنا محررا حينا و معارضًا حينا آخر .
..
و أخيرا ، أيًّا كان الأمر ، أفاد عبد القاهر أم لم يفد من المناظرة في تقرير نظرية النظم ، فإن ما خلص له د. حسن ، رحمه الله و غفر له ، من جزم في قوله :” و الأمر أوضح من أن يُذكَر فإن عبد القاهر أراد أن تسلم له نظرية النظم فلا تذكر إلا به و لا يذكر إلا بها ” نتيجة غير علمية ، و ظلم لعبد القاهر مع هضم جهده و سلب حقوقه بنسبة أفكاره لغيره بحجة ردّ الحقوق إلى أصحابها ، و لو أنّ الدكتور  وقف عند إثبات أن المناظرة من أصول عبد القاهر في تأسيس نظرية النظم لكان ذلك كافيا لأن يشكر و يؤجر دون ثتريب عليه ،إذ طبيعة العلم و المعرفة قائمة على التراكم و الاتصال ، لا القطيعة و الانفصال ، و هذا شيء مما يلحّ عليه عبد القاهر في مباحثه و هو يعالج نظرية النظم التي لم نأت على كلّ ما يتصل بها من مباحث و أبواب كبرى أوسع من أن تحتويها المناظرة ، و قد  خلص الدكتور إلى أن عبد القاهر لم يزد على أن شرحها و حسبُ  مهدرا كثيرا من مسائل النحو و أحكامه التي استحالت على يدي عبد القاهر غربًا حتى أقام البلاغيون بعَطَن ، و حتى ولد علما مستقلا  لا يستطيع منصف أن ينسب بناء أصوله و مسائله  في نظرية مكتملة لغير عبد القاهر الجرجاني ، مع عدم إغفال جهود أبي سعيد السيرافي غفر الله لهم جميعا و جمعنا بهم  في دار كرامته ، 
 و رحم الله الدكتور  حسن إسماعيل عبد الرازق و جزاه خيرا عن العلم و أهله و عما بذله من جهود علمية لخدمة علم البلاغة تحريرا و تأليفا .

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button