..
يتغذى الوطن على عقيدة الولاء وقضية الانتماء، وبهما يتكون المجتمع، وعليهما يتمحور، ومن أجلهما يتطور، وبهما تتحقق مسؤولية الفرد وإنسانيته واجتماعيته، وعن طريقهما تُمارس حقوق التنظيم والتعبير والتكامل والمشاركة.
ولهذا كانت المجتمعات الواعية والأوطان الواعدة تهتم بصناعة ولاء مواطنيها، وتسعى لاكتمال انتماء رعاياها، وتقف صفًا واحدًا في مواجهة أي عصبية أو قومية أو حزبية تحول بينها وبين خاصتها وذوييها، مما شغل هاجس السُلطات -وحُق لها- لمكافحة كل ما يفتّ في عضد شعوبها، أو يُضعف إرادة مجتمعاتها.
وعند دراسة علم اجتماع العرب خاصة والبشرية عامة، نجد أن في الإسلام قوة روحية قادرة على جمع كلمتهم وتهذيب نفوسهم، مما جعل الدين الإسلامي قاعدة صلبة تُبني عليها المجتمعات، وبه تنتظم الولاءات وتتوحد الانتماءات.
ولهذا كان بلد الحرمين الشريفين من أقوى البلدان ولاءً وأرسخها انتماءً، لأن ولاءه وانتماءه جاءا في صورة وطنية وبروح إسلامية، لأنه حاضن الحرمين الشريفين، وفيه يمتزج الولاء بالانتماء، كما تمتزج الوطنية فيه بالروح الإسلامية، ليرسم لنا صورةً كليّةً منهجيّةً وجليّة، جامعةً ومساويةً بين كل مكوناته وأطيافه الشعبية.
إلا أن مراسيل العنصرية وأجناد التجزئة، في كل مرة يطفئ فيها اللهُ نارَ التفرقة والتجزئة، يوقدون نارًا عليها يجتمعون، وبها يفرّقون دينهم ويمزقون وطنهم، ومن هنا كانت التجزئة الأيديولوجية والتفرقة العنصرية، لا تقوم إلا على حساب الصورة الكلية، حيث إنها تقوم على عرض الحقائق التاريخية والروابط الاجتماعية والأحكام الدينية في صورتها الجزئية، من خلال تحليل المعاني الكلية، وتفتيت البنية الجامعة بالتحليل والاستنباط والعسف، سعيًا إلى تضخيم قيمة الذات الجزئية لتبرير آمال التفوق على الكل.
في حين أن العقيدة الدينية الوسطية والنزعة العقلية المعتدلة الحديثة تقوم على التشريعات المنظمة للتكامل والتشارك، وبناء العلاقات الصالحة المصلحة، مع حفظ الخصائص الذاتية والهويات الكلية، بقصد التقارب الموجد لفرص التعاون والمساواة والرحمة.
وبهذه المقدمة الفلسفية نقول: إن المسميات الجاهلية والأيديولوجيات التي تفرّق دين الناس وتحول بينهم وبين أوطانهم، ما هي إلا فتنة، تؤسس لمجتمعاتٍ يراودها الصراع، وتساومها الكراهية، ويسومها العناء والشطط، ويسكنها الفشل الذي سوف يظل قابعًا فيها، ما دام فيها الولاء الحق معلقًا، والانتماء الأسمى محجوبًا.