د. فاطمة عاشور

هل تراكَ جميلاً ؟

..
هناك مقولة رائعة لتولستوي الروائي الروسي الفذ (نفسٌ جميلة في جسدٍ جميل فذاك هو المثل الأعلى للجمال ).
الجمال .. كلمة يبحث عنها البشر في كل شيء ، في مظهرهم و بيوتهم و شتى تفاصيل حياتهم ذلك أن الكون ذاته خلقه المولى جميلاً و لا يقتصر على أبعاد الإتقان في المضمون و المحتوى بل إن أحد دلائل الإتقان في الخلق هو جمال المخلوقات و روعة مظهرها الخارجي ، فالسماء ليست سقفاً مرفوعاً فحسب بل هي لوحة بديعة لفضاء شاسع تتناوب عليه آيات الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم فتارة هي غلالة سوداء حالكة مرصعة بحبات من ماس و بدرٌ هو حبة لؤلؤ عملاقة ، لوحة حالمة تلهب أخيلة الشعراء ، وتارة أخرى هي لوحة مشرقة ملونة بربابٍ أبيض و خلفية زرقاء و طيور تنسج عقداً تموج في سرب بين قمة جبل هنا و سفح وادٍ هناك ، الجمال يشكل عنصراً ضرورياً و متمماً لا عنصراً كمالياً .. و الجمال نسيج يضرب بخيوطه على سائر المرئيات بل و المسموعات و المحسوسات من مخلوقات هذا الكون ، فالجوارح مهيأة لتتلمس لذة الجمال في كل عنصر، الكون ذاته منظومة متكاملة من جمال إلى جمال حيث يمتع الله الإنسان سمعاً و ذوقاً و حساً و نظراً و لمساً بجمال لا يقابله حمدٌ و لايوازيه شكرٌ من العبد مهما اجتهد.
الجمال كما هو ظاهر مادي محسوس فهو أمر باطني يتم قياسه بمعيار الشعور و الوجدان و عليه فالأفعال تحتاج إلى تتويجها بجمال ، جمالٌ يزين أبعاد الصنائع فتكسب صفة المعروف و الحسن ، و تتبعها الأقوال :

وهج :

فلولا جمالٌ زينَ القولَ لما..
بانت عيونُ الشعرِ و الأدبِ

إن الحروفَ أشكالٌ مقطعةٌ..
يُحيلُها الحسنُ سِحراً

فواعجبي

الجمال هو العنصر الخفي لإتمام كل شيء ، و هو كلمة السر التي تفتح رتاج الكمال و القبول و السعادة ، و الإنسان خَلقٌ من خلق الله ، و قد خُلقَ في أحسن تقويم بما يجعله جميلاً حين النظر ، و ذلك الجمال الشكلي يختلف باختلاف المقومات الجسدية و الملامح البشرية و تختلف معاييره باختلاف الثقافات و الحضارات بل حتى معايير الجمال بين الجنسين مختلفة باختلاف دوريهما و طبيعتهما ، و ما من بشر إلا وقد منحه الله مسحة من جمال في شكله مهما كان يوصف بالقبح و ليس هناك قبح مطلق كما أنه لا يوجد جمال مطلق في أشكال البشر فهو أمر نسبي يعتمد معايير التقبل و اختلافها من أحدهم إلى الآخر ، و سر الجمال في البشر أنه يشكل معادلة مركبة من ملامح مادية و انعكاس روحي و مرآة نفسية ، و إلا فلماذا نرى امرأة بارعة الجمال شكلا و يكتفى بالنظر إليها مرة و لا عاملاً آخر للجذب يوجد لتكرار ذلك؟ الجواب أن انعكاساً ما من داخل روحها أو نفسها ظهر على ملامحها فسبب نفوراً كأن تكون المرأة ذات حقد أو حسد أو سوء نفس ، و تضاد ذلك تراه في امرأة متوسطة جمال الملامح و لكنها تسرق النظر و الفؤاد كون صفاء روحها ينعكس إيجاباً عليها فيجعلها أجمل من حقيقتها، و حتى في عالم الرجل كم من وسيم بارع الشكل لكنه مكروه لخبثه و قلة رجولته، و كم من موصوف بأنه عادي يتعجب الخلق من جاذبيته للطفه مثلا أو ذكائه و منطقه ، و النموذج الأروع كما قرره تولستوي في أن يجتمع جمال الجوهر و المنظر بنِسَب مما يشكل الجمال البارع ، و جمال الشكل لا يد لبشر فيه اما جمال المخبر فأمره بين يديك ، إما أن تزيده بصفات مميزة أو تنقصه بسيء الخلال ، و أكبر الخيبات لمن سعى على جمال شكله دون جوهره فتجد بعض نساء يسعين مستميتات لقياسات جسد مثالية و يشتغلن على ذلك بضروب التجميل و التنحيف و الزيادة و النقص و تظل المسكينة تعمل أعمالاً شاقة مؤبدة لإنقاص كيلوات من الوزن فهذا هو رأس مالها و لا تملك غيره لتحافظ عليه ، و تجد آخر لا يدرك من جمال المرأة إلا ذات المقاسات فهو اغبى من أن يتلمس وضاءة وجه و بريق عين و روعة تميز معنوي كذكاء أو خفة ظل ، و هذه المعايير في ظني هي التي تخلق تهاوي الجسور بين الجنسين فما يراه احدهم جميلاً لا يشترط أن يراه سواه كذلك ، فكلٌ له منظاره الخاص بعينيه و فؤاده .

..
في رأيي أن الجمال للجنسين هو ذلك المزيج من مظهر و جوهر و عناية و لكل معاييره التي تتراوح بين السطحية لمجرد الشكل و العمق للمضمون و المحتوى ، و حبذا لو علم الإنسان أن الجمال ثقة تشع من داخل المرء كنور ساطع يجعل من يراه يرى صاحبه جميلا ، الجمال رحلة طويلة تبدأ من عمق الإنسان لا سطحه و تنتهي بمحطة أخيرة يُهبط منها على رصيف الشكل الأخير فإن كانت المحطات المعبورة جميلة كانت محصلة الرحلة النجاح و الرضا و إلا فلا ، نصيحتي لكل امرأة اجعلي ثقتك بنفسك و أدواتك هو منطلق جمالك و حسني العمق يظهر السطح نقياً و اعتني بهما معاً مظهراً و جوهراً تكونين رائعة الجمال ،فكري باصرار سأظل أحيا بمقاييسي الخاصة التي تجعل مني مخلوقاً مميزاً ، اتركي مقاس الخصر الذي يؤرق المسكينات اللاتي لا تملكن غير الخصر جمالا، و افخري بمائة معيار إضافي يجعلك ملكة جمال بعيداً من مجرد سخف زيادة عدة سنتيمترات ، من كثرت و تعددت أدواتها و مميزاتها اتسع أفقها لجمال لا مسبوق و من فقرت و اقتصرت أدواتها على قياس جسد أعانها الله على أسر سجن يبدأ من حساب ذلك المقاس و ينتهي إليه.

و مثلها في ذلك الرجل الذي يهتم بمظهره او ممتلكاته المادية فحسب و يفرح بمجرد كونه ذكراً و يُغفل ثقافته و خلقه و عمقه فيظل مفتقراً إلى الجمال مبقياً على السطحية و الضحالة فالثراء و الزخم ينضحان من العمق لا السطح .
و ما أدق المقولة :
( إذا وُجد المضمون ، انصاع الشكل)

Related Articles

2 Comments

  1. فلولا جمالٌ زينَ القولَ لما..
    بانت عيونُ الشعرِ و الأدبِ
    إن الحروفَ أشكالٌ مقطعةٌ..
    يُحيلُها الحسنُ سِحراً

    رائع جدا ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button