لو عدنا إلى تاريخ التقاعد لوجدنا بأنه لم يكن موجودا في تاريخنا ، حيث كان يعمل الشخص حتى يبلغ من العمر عتيا ، أو يتعب تعبا شديدا يقعده عن العمل ، وهذا السبب هو الذي جعلهم سابقا لا يعرفون كلمة التقاعد .
ولو تعامل الناس مع كلمة التقاعد بروح ايجابية ، وعرفوا أن هذا التقاعد ليس نهاية الحياة ، وإنما هو بداية لعالم أفضل يعيش فيه المتقاعد حياة جميلة تُفتح له فيها آفاق الوقت ، ليعمل أعمال لم يكن باستطاعته انجازها عندما كان على رأس العمل .
وعندما نغير هذه الصورة الذهنية لدى المتقاعدين ، فإننا سنبث في قلوبهم روح ايجابية ، تجعل نظرتهم للتقاعد تتحول من نظرة سلبية إلى نظرة متفائلة يعون فيها أن التقاعد مرحلة تجعلهم يعودون لأنفسهم بعد أن كان العمل ، ومشاغل الحياة تملا جدول حياتهم .
فالتقاعد يعني انك أصبحت أكثر نموا ، وخبرة .. وعليك أن لا تبقى في منزلك وحيدا ! وإنما عليك أن تخرج إلى الناس لتنخرط في الكثير من الأعمال التطوعية ، والتي تجعل الجميع يستفيد من خبراتك الواسعة ، وكما يقول المثل الموريتاني ( يرى العجوز المتكئ ، ما لا يراه الشاب الواقف !).
والشباب اليوم في اشد الحاجة إلى خبرات الكبار ، لان هؤلاء الكبار يقدمون لنا عصارة تجربتهم في الحياة ، وهذا ما نلاحظه في هدوئهم النبيل ، فنحن كشباب لا زال الطريق أمامنا طويل ، ولذلك فان لدينا الكثير من الحماسة ، والتسرع ، وهذا ما يجعلنا نفقد الكثير من المناصب ، والأعمال ، والأشياء بسبب طيش قراراتنا ، وقلة خبرتنا ، ولذلك فإننا نحتاج إلى الكبار ليضبطوا لنا بوصلة الحياة .
وهذا ملاحظ فأحيانا نجد الأسر التي تفتقد إلى الكبير هي اسر مبعثرة لا ثبات لها ، ولا قرار ! .. وفي المقابل نرى الأسر التي تلتف حول كبيرها هي اسر ثابتة ، ومستقرة ، لأنها تتبع حكمة كبيرها ، وتأخذ بآرائه السديدة في إدارة شؤون حياتها.
وعلى المتقاعدين أن يعلموا أن ( الكِبَر نمو وليس انحدار ) نمو في كل شيء ، فهم خاضوا جميع التجارب في الحياة ، وواجهوا الكثير من المعضلات ، وتخطوها بسلام ليصلوا بسفينتهم إلى شاطئ الأمان ، وليبدءوا في بث روح الأمان في قلوب الشابات والشبان .. فكل مرحلة لها ظروفها ، وطقوسها ، ومرحلة التقاعد من محطات العمر الجميلة .
فالتقاعد فرصة كبيرة لصلة الأرحام لان أيام العمل وضغوطاته تمنع الإنسان من فعل الكثير من الأشياء التي عليه القيام بها ، ولذلك فان في التقاعد فرصة لزيارة الأقارب ، وربط حبل الوصل الذي كادت أن تقطعه ظروف الحياة ، وكما قالوا ( تنتهي الحياة ، ولا ينتهي العمل ! ) .
وفي التقاعد فرصة كبيرة للتقرب من الأبناء والأهل في المنزل ، وفي الرحلات العائلية ، والاستفادة من خبرات العمر في توجيههم نحو الطريق الصحيح ، وتعويض كل تقصير سابق تسبب فيه كثرة الانشغال في العمل .
وفي التقاعد فرصة كبيرة للخدمة المجتمعية من خلال التعرف على الجيران ، ومشاركتهم أفراحهم ، وأحزانهم ، والتفاعل مع جميع الخدمات الاجتماعية في الحيّ انطلاقا من روح التطوع الجميلة .
وفي التقاعد فرصة للقيام بانجاز المشاريع الخاصة فبعد أن تنتهي سنوات العمل ، فهنالك فرصة لعمل مشروعك الخاص الذي خططت له طويلا في حياتك العملية ، ووضعت فيه جميع خبراتك السابقة ، لتجد متسع من الوقت لتتابع مشروعك ، وتبدع فيه بكل فعالية وانجاز .
ويمكنك أيضا في فترة التقاعد أن تكتب مذكرات حياتك ، وتُحصي فيها جميع منعطفات حياتك الجميلة ، والصعبة ، الهادئة ، والصاخبة لتقدم للأجيال كتاب يحوي خبراتك ، فيقرؤونه ليختصر لهم الكثير من الزمن .
وثق تماما أيها المتقاعد بأنك حي وأكثر حيوية من بعض الشباب متى ما آمنت أن التقاعد فرصة للانطلاقة نحو الغد الجميل .. فرصة تجمع فيها نفسك ، وتلملم شتاتك ، وتغرس البذور في طريق فراغك ، وتستمتع بهواياتك ، وتتصدق من خبراتك ، وتعطي لنا من نفيس تجاربك ، وخطواتك ، وتتكرم بتشجيع شبابك ، وشاباتك لتغرس في قلوب الجميع حبا لا ينتهي ، وتقديرا لا ينقضي .
فأنت الفنار الذي يرشد سفيتنا نحو الطريق الصحيح ، وأنت سيد الحكمة الذي عندما نجالسه نقتبس من نوره ضوء يجعل حياتنا أكثر إشراقه .. فواصل تألقك أيها الرمز الوقور ، وامضي في حياتك بكل شغف دون فتور ، فبك نفهم معنى الحياة ، ومعك نكتسب الخبرة ، ومن خلالك نختصر الكثير من المسافات .
فلا عدمناك أيها المتقاعد المنطلق نحو الحياة ، والمشع بالطاقة الوهاجة ، والممتلئ بالروح الملهمة ، والمتدفق بكل روائع الحياة البهيجة .
حكمة المقال
إذا أردت أن تنموا سريعا فجالس الكبار لتكسب الحكمة .. وتختصر على نفسك الكثير من المسافات .
2
مقالة معبرة ،والفكرة نابعة من صميم الحياة ، لذا اكتسبت هذا التميز ، وجاءت الجملة الختامية تحمل خلاصة الأفكار : إذا أردت أن تنمو سريعا فجالس الكبار.
اللهم إنا نسألك الخير لكبارنا وصغارنا وللمسلمين كافة.
ممتن لك حبيبي ياسر سليمان
خالص الشكر لك من قلب قلبي
محبك / حمد الكنتي كاتب المقال