الفلسفة في نظري فعل تدبّري مسدد بالوحي ، تتحرك في عالمين ، عالم الشهادة مادتها و عالم الغيب وقودها التصوّري ، و لا أظن الموقف العدائي من الفلسفة نتج إلا من الممارسات و التحيّز المعرفي الذي انتهجه الفلاسفة ، في الغرب خصوصا ، من حيث اشتراطهم البحث عن الحقيقة من غير طريق الإله كما يوضّح لوك فيري ، و ذلك بقصد تحقيق السعادة بمجهود إنساني خالص ، و هذا ما جعل من الفلسفة في أساس تصوّرها الوجودي تسير بقدم واحدة ، برغم ما حققته من إنجازات ضخمة على المستوى المعرفي ، لكنها على مستوى الخلاص الفردي لم تحقق شيئا أبعد من لحظة التجلّي الخالصة التي هي ، على حد تعبير نيتشه ، لحظة العود الأبدي ..
و بالرغم من أن الحقب التاريخية للفلسفة شهدت عند كثير من الفلاسفة البعد الروحي و الاعتراف بالإله ، إلا أن الفلسفة في أساسها أُريدَ لها أن تكون فعلا عقليًّا محضا و مجرّدا من أية اعتبارات غيبية ، أو بتعبير الفلاسفة ميتافيزيقية ، و من هنا لا يعتمد الفلاسفة في مصادرهم المعرفية على الوحي ، و هنا مكمن الاختلاف و الخلاف مع الفلسفة بحسب التصوّر الإسلامي ، و أما ممارسة الفعل التدبّري و تفعيل العقل في استبطان أسرار الكون و الوجود فهي من آكد الأعمال و أجلّها ، بل إنه ليخرج من كونه ممارسة عقلية إلى أن يكون إيمانا و عبادة ، و في هذا السياق تأتي تساؤلات سيدنا إبراهيم عليه السلام ، بالرغم من أنها بالتعبير الفلسفي أسئلةٌ وجوديّة ، لكنها لم تكن أسئلة الشك المطلق كما قد يظن ، بل هي أسئلة الإيمان العميق الذي يريد أن يؤول إلى قناعة راسخة لا إلى تقليد و تبعيّة عمياء ..
من هنا أحتفي بالفلسفة و أراها رحبة الفضاءات متى ما كانت تتوسّل بالعقل المسدد ، العقل التجريدي الذي لا يعرض عن ضرورة الإيمان الفطري في أعماق النفس الإنسانية ..
أما العقل المتغطرس ، الذي يتعالى على صانعه ، و يصمّ عن نداء الفطرة ، و يريد المقاربة و الممارسة المجرّدة ، و يبحث عن سعادته من طريق غير الإله ، فيصدق عليه قوله تعالى ” و من يتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى و نصله جهنم و ساءت مصيرا ” ، و لئن كان سبيل المؤمنين في الآية مخصوصا بسبيل المسلمين ممن اتبعوا محمدا صلى الله عليه و سلم ، فلا يضر الآية أن نفهم بالإضافة إلى ذلك أن سبيل المؤمنين يتضمّن الطريق إلى الله معرفة و هداية و بحثا في الوجود بكل ما من شأنه تعميق الإيمان و المعرفة على حدٍّ سواء .
في هذا السياق يحضرني ما أكّده د. مصطفى محمود من أنّ المدنيّة في القرن العشرين ، و قل مثله عن الحادي و العشرين ، اختارت ” الذرّة و الطاقة و الكهرباء و الحديد الصلب و الديناميت ، و نبذت الباقي معتذرة بأنّه غيبيّات ، مع أنّ العلم المادّي نفسه غارقٌ في الغيبيات .. فما هي الكهرباء؟ و ما هو الإلكترون ؟ و ما هي الطاقة ؟ كلها غيبيّات . نحن نستخدم الكهرباء ولا نعرف كنهها . و نصنع الأجهزة الإلكترونية و لا نعرف ما هو الإلكترون ؟ و نطلق الموجة اللاسلكية و لا نعرف ما هي الموجة اللاسلكية و لا ما شكلها؟ .. و العلم المادّي لا يعرف ماهيّة أيّ شيء . إنّه فقط يعرف العلاقات و الكميّات و القوانين ، و لكنّه يجهل ماهيّة أيّ شيء .
إن حكاية الغيبيات هي العذر الكاذب الجاهز ..
أما الحقيقة فهي أن الإنسان قد آثر الطريق السهل حيث لا يحتاج إلى مواجهة نفسه و الالتحام معها في جهاد عظيم مرير في سبيل إعادة خلقها “
من أجل ذلك يفضّل الفلاسفة أن يسلكوا طريقا لا يفضي إلى الإله ، لأن طريق الإله يعيدهم إلى أنفسهم ( و في أنفسكم أفلا تبصرون ) ، و من أجل ذلك تبدو الفلسفة مدهشة حتى إذا قاربت الغيبيات و تطفّلت على نصوص الوحي نكصت إلى طفولتها و سذاجتها ، و بدا الفيلسوف المبهر معتوها بنصف عقل ، و في كثير من الأحيان لا عقل له ، بل إنّه ليضحكك عليه بعد أن كنت تضحك منه و معه إعجابا به و بعبقريّته ، و هذا قَدَرُ و قَدْرُ التفكير الناقص المستغني بنفسه المعوّل على قدراته الخاصة فيما ليس من طبيعة هذه القدرات أن تتجاوزه و تخترق حُجبَه و أستاره الكثيفة ، و لي هنا أن أختم موقفي بتساؤل و جواب طرحهما د. مصطفى محمود :” هل نحن أهل الكمال لنشترط الكمال ؟ و هل أحطنا بكلّ شيء لنحكم على كلّ شيء ؟ إنّ المشكلة أكبر من العقل و لا جواب لها إلا الإيمان.” .