في الشعر العمودي تحديدا تحتل القافية مكانا أصيلا في جسد النص الشعري و هي تتجاوز كونها إيقاعا سمعيا إلى أن تكون جالبة للمعاني المخبوءة في ذاكرة الكلمات ، و في محاولة لإعادة النظر في القافية و نفض غبار المكرور من القول حولها تلمّستُ زواية نظر لا أزعم أنها جديدة ، و إنما هي على الأقل غير مطروقة بكثرة فيما يخصّ هذا النبع الإيقاعي في الشعر ، و أؤكّد هنا على فكرة النبع للإشارة إلى أن إيقاع القافية منتج للمعاني و الصور خلافا لما قد يظنه الذين يعتبرون القافية مجرّد توقيع صوتي في ذيل البيت الشعري .
تبعا لهذا يسعني القول إن القافية كما أسلفت ذاكرة البيت الذي تؤول إليها ظلال المعنى و عشّه الذي تأوي إليه طيور الصور ، فالشاعر أثناء معالجته النص ،و بغير وعي منه و هذا ما ينبغي ، تسوقه القافية إليها و تحكمه ، و حكمها هنا ليس حكما إيقاعيا مجردا ، لأن هذا الحكم يفرغ البيت من مضمونه الفني و الدلالي ، و لكنه حكم متعلّق ببنية النص ، بدءا بالبيت ، و اكتمالا بالقصيدة التي تتنادى قوافيها و تتكامل في بناء الرؤية الشعرية و الفنية .
و مما لفتني فيما يخص هذا المكون الشعري المهم في بناء القصيدة العمودية و بتّ أشعر بطمأنينة القول به هو أنه إذا ما اعتبرنا البيت الشعري جسدا مكتمل النمو ، فإن القافية هي شفرته الوراثية أو حمضه النووي بتعبير علم الأحياء ، حيث تكمن في القافية مكوّنات البيت من معاني لطيفة و صور مألوفة أو فارقة مختلفة .
و من هذا المنطلق يمكن ملاحظة أن القوافي الشعرية المألوفة غالبا ما تحيل الشاعر إلى ذاكرة جمعيّة ملأى بالصور المكرورة و المعاني المستهلكة و لا يكاد ينجو منها سوى شاعر لديه مخزون ثقافي وافر من الصور و الرموز التي تفرض على القافية المستهلكة ذاكرة جديدة ، أما الشاعر الذي يسير في الطريق السالكة فلا شك أن القافية تبتلعه و تهيمن عليه و تفرض على قصيدته ذاكرتها المزدحمة بالشعراء السالفين .
لهذا السبب أرى أن القافية النادرة الشرود ، و أؤكد هنا على حرف الرويّ ، تختزن كثيرا من المعاني و الصور الجديدة التي لم يطرقها الشعر و يمكن أن تكون ملهمة للشاعر حين يطرقها بحقّها من التأمّل و لطف النظر و سعة المخيلة ، و إلا فإنها في حالة عدم المكنة الشعرية ستؤول إلى عبء على الشاعر و خانقة للنَّفَس الشعريّ إضافة إلى الضغط على المخيلة و تضييق نطاق حركتها التخييلية .
و في هذا السياق أشير إلى أن الأوائل يسمّون القصيدة قافية ليس من باب إطلاق الجزء على الكل فحسب ، و إنما لإدراكهم من خلال الممارسة الإبداعية شعرا و نقدا أنّها ذاكرة الشعر و واجهته التي تقود البيت و القصيدة من بعد ، رغم أنها تأتي في خاتمة البيت الشعري ، و كأنّ البيت الشعري يسير بدءا من قافيته في اتجاه القصيدة فيما يسير صدره باتجاه عجزه ، و لا يعني ذلك حضور هذا الإجراء في ذهن الشاعر أثناء معالجة البوح ، إنما يعني أن الشاعر بمجرد ما تتراءى له ملامح البيت في خاطره تكون القافية هي المهيمنة على ذاكرة البيت سواء تعلّق ذلك بالمعنى أو بالصورة .
بحسب هذا التصوّر أفهم لزوميّات أبي العلاء المعرّي ، فهو من خلالها لم يرد الفضاء الصوتي فحسب إشارة إلى تحدّيه و كونه محدود البصر ، و إنما أراد ارتياد فضاءات جديدة عبر المخيّلة المبصرة و البصيرة الواسعة التي لم يحجبها البصر بمحسوساته ، و لكي يحلّق عاليا دعم قافيته بما لا يلزم ، تماما كما يدعم الصقر جناحيه بحفيف الرفرفة .
أخيرا .. يمكنني القول ختاما إن القافية تحمل في ذاكرتها ملامح البيت المفرد ، و هكذا تتناسل قوافي القصيدة لتشكّل ملامح النص بكامله في وحدة عضوية متماسكة يبدو لنا منها أن القافية وحدة صوتية فحسب فيما هي خليّةٌ أولى نبتت بشكل معكوس في البيت و أنتجته في عالم الشاعر اللامرئي ، و دور الشاعر في معالجة الشعر هو الإنصات لهذا النبع و محاولة تتبّع القافية بموهبة قائف الأثر الذي يدرك من الأطراف ملامح الوجه دون أن يحتاج إلى رؤيته.
*سعود الصاعدي*
لاتعليق/هُنا/توقفت/اللغة/عند.سعود.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…ياسعود الصاعدي