الشعر الصافي عنوان مقالة نقدية مترجمة للناقد و الشاعر الفرنسي بول فاليري يذهب فيها إلى أنّه ليس في الإمكان كتابة قصيدة خالصة شعرا ، أي أنه لا توجد قصيدة على الإطلاق تكون فيها نسبة الشعر مئة بالمئة .
تداعيا مع هذا الرأي و زيادة إيضاح له أيضا ، يمكن اعتبار الشعر بمثابة ماء الورد بعد التقطير ، فلكي تحصل على تولة عطرية تحتاج إلى مساحة واسعة من الحقل ، و هذه العملية الإنتاجية يعرفها زارعو الورد الذي يبذلون جهدا في الحصول على كميّات من عطره المركّز ..
و بطريقة معادلة تبدو العملية الشعرية شبيهةً بعملية تقطير الورد او قريبة منها إن لم تكن أشقّ .. إنها في حاجة إلى مساحة واسعة من التجربة القرائية و الحياتية و قبل ذلك الاستعداد الفطري لقبول الغرس كما تقبل الأرض النبات وفق شروطها و شروطه معًا .
فإذا ما تهيّأت هذه الأسباب تدخّلت اللغة لتحول بين الشعر و الشعور ، بين العطر و الزهور ، و من هنا جاءت اللغة المجازية لتحلّ محلّ اللغة التقريريّة المباشرة التي ليس في وسعها نقل كمية أكبر من الشعور و تحويله إلى طاقة شعريّة ، و على هذا الأساس كان الشعر لغة احتمال و تصوير تنفتح فيه الدلالات و تتسع الفضاءات بقدر ما ينهل من أعماق النفس السحيقة التي تحتوي على قدر كبير من الشعور الغامض في مساربها الكثيفة و عوالمها المتعددة .
و هنا يأتي دور الشاعر مع لغته . كيف يرتاد عالمه الداخلي ؟ و كيف يعبّر عنه ؟ و كيف يسيطر على لغته لتستحيل في يديه صلصالا لدنا يطيعه على أيّ وجه يريد التعبير عنه ؟ كيف يعبّر باللغة ؟ و كيف يعبّر عن الشعر لينتج من هذا التعبير المزدوج قصيدة صافية خالصة للقارئين ؟
لا شك أن إنتاج قصيدة خالصة بالمعنى المكتمل محال ، كما يرى فاليري ، فلابد أن المسافة التي بين اللغة و الشعور ستعوق هذا الاكتمال و لن يتاح للشاعر من قصيدته إلا ما يستطيع تقطيره بواسطة اللغة ليحصل على قدر يسير يمنح قصيدته شيئا من رائحة الشعر .
هل يعني ذلك استحالة وجود الشعر أو غيابه بالكلية ؟ بالطبع لا ، فالشعر تكفي منه رائحة يسيرة ليملأ القصيدة ، لتحيا به فتبقى خالدة ما دامت تعبق به و لو في بيت واحد ، و هذا ما يفسّر انحيازنا لكثير من النصوص التي قد لا تحتوي إلا على أبيات معدودة أو حتى بيت أو بيتين ، و ربما كانت ومضة شعرية أو صورة عميقة هي ما تختزن الشعر فتمنح سائر النص حياته و سيرورته في ذاكرة الزمن .
لكن السؤال هنا .. ما سرّ نجاح الشاعر البسيط أحيانا رغم استناده في كثير من نصوصه على اللغة المباشرة أو تلك التي لا تذهب بعيدا في عالم المجاز ؟
الجواب في نظري يكمن في العلاقة بين الشاعر و لغته ، و ليس في العلاقة بين الشاعر و عالمه الداخلي إذ تظل هذه العلاقة الأخيرة شرطا أصيلا في كتابة الشعر ، لأن أيّ شاعر لا يتصل بتجربته و عالمه الخاص لا ينتج شعرا بالضرورة حتى لو كتب بأجمل اللغات .
فماذا عن العلاقة بين الشاعر و لغته ؟ تبدو لي هذه العلاقة في الشغف و الديمومة التي تؤلف بينهما حتى يصبح الشاعر قادرا على نقل شعوره بأبسط العبارات دون أن يفقد من الشعر سوى ما تطاير غباره أثناء المعالجة الشعرية ، و هذا هو شأن الشعراء المطبوعين الذين ينهلون من النبع مباشرةً بلا وسائط كثيرة .
و يبقى الشاعر المتقن الذي يكتب الشعر بحرفية النحات و قدرة الفنان مثالا للشاعر النموذج الذي تصل به اللغة إلى أعماق الشعر القصيّة دون أن تحجبه الصنعة أو يغرقه الطبع .
إجمالا .. بقدر ما تتسع فينا مساحة التجربة الذاتية التي تأتي في مثالنا معادلة لمساحة قبول الأرض للغرس تتسع إمكانية أن نحصل على شعور خالص في قبضة لغة الشعر الصافي على حد تعبير بول فاليري !
0