فلسفيا للزمن مستويان ، عام أفقي و خاص عميق . في العام يتحرك المجتمع و تتحرك الأحداث على مستوى رتيب مألوف كما تتتابع موجات البحر موجة إثر موجة فوق سطحه ، و في الخاص يتحرّك الإنسان على مستواه الفردي و تطلّعاته الخاصة بين آلامه و آماله و طموحاته و أحلامه ، فيتشكّل فرديا من خلال هذا المستوى العميق كما يحدث لمن يغوص في أعماق البحر طلبًا للنفائس و الدرر .
و الإنسان باعتباره الفردي و الاجتماعي ليس في غنى عن المستوى الأفقي المعنيّ بحركة المجتمع و نظامه الصارم و صيرورته الاعتيادية و إن كانت حاجته إلى المستوى الأوّل أهم لتحقيق الذات الخاصة و الخروج على رتابة الزمن الفيزيائي الطافح على السطح .
هذا ما يقرره الدارسون المعنيّون برصد الزمن في مستوييه العام و الخاص : زمن الواقع و زمن النفس .
و هذا الرصد ليس جديدا على الوعي و الملاحظة ، إذ كل من يتأمّل الزمن يدرك فيه هذه الأبعاد ، فهو تارة زمن أحداث يومية رتيبة و تارة زمن لحظات شعورية عميقة .
و في نظري أن مثل هذا التصوّر يصلح مدخلا لفهم الإيقاع في الشعر ، فهو مثله تماما ينقسم ، كما ذهب إلى ذلك عبد الله الطيب ، إلى *وزن مجرّد* هو التفعيلات التي يتأسس منها القالب الوزني فيحدد هوية البحر الشعري ، و إلى *إيقاع و نغم* حين يرتدي الكلمات الخاصة التي يصبّها الشاعر في القالب الوزني . و من هنا يحدث الاختلاف بين شاعر و آخر على مستوى الشعر رغم اتفاقهما في اختيار بحر واحد ، حيث لا يمنع اتحادهما في الوزن المجرد أن يختلفا في الحركة الإيقاعية التي تنسرب داخل الوزن عبر الكلمات الشعرية في عمق الصيغ التفعيليّة .
تبعا لذلك يتبيّن أنّ العبارة المصبوبة في الإيقاع ليست هي التفعيلة التي لا تتجاوز أن تكون نمطا مجردا أو بالتعبير الفلسفي زمنا سطحيا رتيبا ، في حين تبدو العبارة ذات بصمة فردية ينعكس فيها الزمن الخاص على المستوى العميق ، و خصوصية الشعر و نسبته لصاحبه تبدأ من هذا التحوّل الإيقاعي ، التحوّل من الحركة الأفقية على مستوى الزمن إلى الحركة العميقة التي تخرج الإيقاع من الرتابة إلى الجدّة و الحركة النابضة بالحياة .
و في هذا الجانب العميق من الإيقاع يتفاوت الشعراء و يظهر التميز بينهم ، فكلما كان الشاعر أقدر على التعبير عن عوالمه الخاصة و زمنه الخاص كان أقدر على استثمار المستوى الإيقاعي العميق الذي يجعل نصّه يشبهه بعيدا عن التناسخ الشعري على المستوى السطحي الإيقاعي ، و لتوضيح هذه الفكرة أضرب مثالا بالشاعر العروضي الذي يكتب الشعر استجابة لما يعلم من الوزن لا لما يشعر به من الإحساس ، فهذا الشاعر و إن كان متقنا للإيقاع الشعري على المستوى التفعيلي إلا أنّ معرفته بقوالب الوزن تحكمه أفقيا فينتج شعرا باردا نمطيا حادّا في وعيه الصوتي ، خلافا للشاعر الذي يكتب تحت إملاء إحساسه بالنغم الشعري داخل نهر الإيقاع الجاري فإنّه ينتج شعرا نابضًا بالحياة ممثلا للإنسان في أعماق الشاعر مرتديا الزمن الشعري الخاص لا الزمن الاعتيادي الرتيب .
و في هذا السياق يمكن أن نلحظ فارقا في الشعر بين ما قبل الخليل و ما بعده ، أي ما بعد التراكم الشعري فيما يخص القصيدة العمودية ، فقد كان الشعر قبل أوزان الخليل يتحرك في فضاء النغم الوجداني النابع من أعماق الشاعر و قد استمر بعد الخليل على ذلك إلى أن تحوّل الوزن إلى ضاغط تعليمي يستحضره بعض الشعراء ، و لا أقول كلهم ، قبل الخوض في غمار القصيدة ؛فكان نتاج ذلك شعرا خارج الزمن العميق الخاص ، يتحرك على سطح الإيقاع الأفقي ، و هو ما انعكس على التناول الموضوعاتي للشعر فتحول في أكثره إلى نمط رتيب كان سببا في الثورة على الشكل الأفقي و كسره من خلال نظام شعر التفعيلة الرأسي الذي يتناغم مع حركة الزمن الخاص المتدلّي إلى الأعماق بالانجاه إلى ذات الشاعر وفضائها الفردي.
و كما حدث للشعر العمودي في تراكمه حدث ذلك أيضا لشعر التفعيلة الذي تراكم لاحقا حتى تحوّل إيقاعه الشعري إلى فضاء شكلي رتيب ، إذ صار الشعراء يكتبون شعر التفعيلة ابتداء لا ترقّيا مع التجربة الشعرية الطويلة التي تبدأ من حيث ابتدأ الشعر و تنتهي إلى ما انتهى إليه ، و هو ما جعل فضاء التفعيلة يضيق بالشعر و يتسع للخواطر الموزونة على النظام التفعيلي .
و ها نحن اليوم نقرأ عودة لافتة إلى الشعر العمودي الذي يبدو أنّه تحرر من رتابته في نماذجه الشعرية الجديدة التي حاولت العودة إلى الفضاء الذهني قبل تنميط أوزان الخليل ، بدليل أنّه لم يعد ، أعني الشعر العمودي ، في بعض أشكاله الكتابية يلتزم بالشكل العمودي و إن التزم به إيقاعا ، و في هذا إشارة إلى تحرّر المخيلة و الذهنية الإيقاعية من الشكل الأفقي للبحر الشعري ، و لا شك أن هذا التحوّل الكتابي يعطي إشارة إلى الرغبة في التحوّل من الزمن الأفقي العام إلى الزمن الرأسي العميق : زمن الشعر الخاص .
و مما يؤكد المستوى العميق لزمن الشعر ما يجده كل شاعر يغوص في لحظة بوحه من تعالٍ و خروج على الإحساس بالزمن الأفقي ، فلا يعود الزمن بالنسبة له امتدادا أفقيا تحت سلطة الدقائق و الساعات ، بل يتحوّل في حالته إلى كتلة شعورية عميقة تحسب بالنبضات التي هي أصدق في قياس الزمن الشعري من الدقائق ذات البعد الأفقي ، و لهذا السبب لا يحسّ الشاعر المنهمك في لحظة البوح بالزمن طال أو قصر شأنه شأن أي منهمك في عمل فردي بإحساس عميق خارج الزمن الاعتيادي !
أختم ما سبق بما يعزز هذا التصور ، و ذلك بالإشارة إلى ما قرره محمود شاكر في كتابه الفذ “نمط صعب و نمط مخيف” فيما يخص أزمنة الشعر حيث ذهب إلى أنها ثلاثة أزمنة : زمن الحدث و هو الذي يشكّل نواة النص الشعري استجابة للحدث أيا كانت طبيعة هذا الحدث ، و زمن التغنّي و هو الذي يتشكّل فيه النص الشعري بعد فترة من زمن الحدث مهما طالت هذه الفترة ، و أخيرا زمن النفس و هذا الزمن هو المسؤول عن انصهار التجربة و إنتاج الشعر في صورته الشعورية العميقة و به تتحقق الوحدة العضوية و الشعورية معا ، و من خلاله يتشكّل النغم الشعري في تفاصيله و ذراته الشعورية التي تنتج عنها الزحافات و العلل في البحر الشعري ؛ فهي وفق هذا التصور أعمق من الإيقاع الخليلي المجرّد في هيئته التفعيلية التي أشار إليها عبد الله الطيب ، و بحسب محمود شاكر فإن الزمن الثالث : زمن النفس ، هو زمن الشعر الحقيقي ، فلا هو زمن الحدث و لازمن التغنّي ، لأن هذين الزمنين ، أحدهما ، فيما أرى ، يتعلّق بالزمن الأفقي ( الأحداث اليومية ) ، و الآخر يتعلّق بلحظة الإنتاج التي هي بالضرورة مسبوقة بلحظة شعورية عميقة تم فيها التخلّق الشعري في الطريق إلى تحويل التجربة الشعوريّة إلى تجربة شعرية خاصة .
0