في فترة من الفترات كانت المسيحية في أوروبا هي الطابع العام في الفكر الأوروبي .. وازداد نفوذ الكنيسة وامتد سلطانها، حتى اصبحت هي المسيطرة على كل شؤون الحياة. حتى صارت تعزل الملوك وتوليهم، وتجيش الجيوش، وتملك الإقطاعيات والثروات الطائلة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل قامت تؤلف نظريات علمية عن الكون وشكل الأرض والأفلاك، وتلزم الناس بالإيمان بها على أنها جزء من العقيدة.
وفي أوائل النهضة الأوروبية عندما تقدم العلم التجريبي والنظري القائم على البحث والاستقراء والتجربة، قامت قيامة الكنيسة خوفا على القطيع البشري الذي كانت تحكمه باسم الدين، فيذهب نفوذها وسلطانها وما تتمتع به من استعباد الناس، ولم تتوان في تكفير وتحريق وقتل العلماء لأنهم قالوا بكروية الأرض!
وظلت الهوة تتسع بين رجال الكنيسة ورجال العلم حتى جاء “دارون” ليوجه الضربة القاضية للكنيسة، فلم يعد وجودها إلا بمثابة تراث قديم لا حاجة للناس بها في وقت يتصدر فيه العلم التجريبي والحسي المشهد الأوروبي، وبدأت المادية تغزو أوروبا في كل شؤون الحياة وتتعامل مع الإنسان كمادة إنتاجية استهلاكية لا كبشر له روح وجسد، وبدأت موجة من الإلحاد تسود أوروبا شرقها وغربها، وتنتقل هذه العدوى إلى بقية أرجاء الأرض لتفسد الحياة البشرية وتنزع صفة الإنسانية من البشر، وأصبح قانون الغاب هو الذي يحكم الناس بعيدا عن شرع الله !
فهؤلاء الملحدون حين تواجههم قضية الخلق، وهي القضية التي تتحدى كل منكر لوجود الله، يقولون إن الطبيعة هي التي تخلق !
يقول دارون: إن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق. (1)
وبناء على هذه النتيجة إذا كانت الطبيعة هي من خلقت الإنسان وأوجدته كما يدعي الدارونية فما الإنسان بالنسبة لهذه الرؤية إلا كائن طبيعي مادي تسري عليه قوانين الطبيعة المادية نفسها التي تسري على الأسود والذئاب والحشرات في تحقيق المنفعة واللذة فأهدافه ودوافعه مادية. وبدلاً من كونه إنسانا مركبا مفعما بالأسرار مكونا من جسد وروح، ظهر إنسان تحركه الدوافع الاقتصادية فهو إنسان اقتصادي يحركه مبدأ اللذة والمنفعة والنتيجة يكون لدينا إنسان طبيعي مادي.
ويشير المفكر عبدالوهاب المسيري في إحدى مقابلاته موضحا هذه الجزئية قائلا:” انظر إلى أي إعلان في التلفاز ستجد أن الإنسان الذي يظهر فيه يتحرك في إطار المنفعة الاقتصادية واللذة الجنسية، فبجوار الإعلان عن سيارة جديدة يوجد بجوارها فتاة شبه عارية، تستخدم ساقيها لتوجيه أنظارنا للمزايا اللذيذة غير النافعة للسيارة.(2)
وفي ظل هذا التصور يوجد انتهاك فظيع لرقي الإنسان وعلوه على سائر أجناس الحيوان وفتح لأبواب انتهاك الاخلاق والمبادئ، فبعد أن كان الإنسان يبني أخلاقه على أسس ومبادئ ثابتة وباقية في كل زمان ومكان، ألغى دعاة النزعة المادية الملحدة “الدارونية” تلك المبادئ فلم تعد هناك مبادئ مطلقة تحكم تصرفات الإنسان وتضبط سلوكه، وإنما تحولت المنظومة الأخلاقية إلى أمور نسبية تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان.
وفي تأكيد هذه النتيجة يقول علي عزت بيجوفيتش ” لا يمكن بناء نظام أخلاقي على الإلحاد” (3)
ويقول ريتشارد فيكار:” لقد نجح الإلحاد في قلب موازين الأخلاق رأسا على عقب ” ويصور الفيلسوف تشستروتونن شيئا من أثر حياة الإنسان بدون الاعتراف بوجود خالق حيث قال :” إن الإيمان بعدم وجود الله يشبه من استيقظ في صبيحة أحد الأيام ونظر إلى المرآة ولم ير شيئا، فحيث يغيب الانعكاس ويغيب الإدراك وتغيب معرفة الإنسان بذاته نهائيا، لن يكون هناك أي معيار يقيس المرء نفسه عليه، ولن يوجد أي شيء يعمل المرء على تعديله، ومن ثم تصبح مقولة سقراط: (اعرف نفسك) مستحيلة ” (4)
وهذه الأدلة وغيرها تدل بوضوح أن النزعة المادية لم تحقق للإنسان الشعارات التي دوت بها في الأجواء، ولا الآمال التي وعدت بها، وتثبت أنها بانقطاعها عن الله والخضوع له أفسدت على الإنسان حقيقته وتميزه وحولت علاقاته وآماله ورغباته إلى أطر مادية محضة.
يقول المفكر المصري عبد الوهاب المسيري :” إذا نسي الإنسان الله وظن أنه غير موجود نسي نفسه وجوهره الإنساني المتجاوز، ومركزيته في الطبيعة، وما يميزه كإنسان، ونسي أنه إنسان، إنسان طبيعي مستخلف من إله علي قدير مجاوز للطبيعة والمادة”. (5)
لعل صورة العالم اليوم هي أسوأ صورة له في التاريخ .. فلم تمر على العالم فترة من فقدان السلام واضطراب الأمن أحلك مما مر به في هذا القرن الأخير، ولم تستقر أحوال العالم اليوم إلى هذه اللحظة.
أحسنت على هذا المقال الرائع
شكراً اخي عبدالله ع المقال الرائع
اجدت وافدت شكرا لك