يستحيل في الشعر أن تفصل الشكل عن المضمون أو تتصوّر أنّك قادرٌ على إعادة صياغة المعاني الشعرية دون أن تنتقل إلى بناء جديد لا علاقة له بالصياغة الأولى مهما بدا لك أنّ الفارق بينهما مجرّد عبارات يسيرة، فالشعر كالنحت تمامًا شكله هو مضمونه، وحين ترتدي لغتك الفصيحة، أو لهجتك العامية، شعورًا أو فكرة ما، فثق أنه ليس لهذا الشعور أو هذه الفكرة إلا هذا القالب اللغوي مع اعترافي هنا بارتكاب خطأ تسامحًا بقصد التعبير فحسب، وإلا فكلمة قالب هنا هي ذاتها الشكل الذي هو الشعر تمامًا، أما القالب أو المضمون فهو مفهوم تجريدي في الشعر بحيث لا تستطيع أن تنقله من شكل إلى آخر دون أن يتغير هو أيضًا بمجرّد أنّك أعدت الشكل من جديد.
و قد تكلم عبد القاهر في هذا المعنى تأسيسًا لفكرة التلاحم بين اللفظ والمعنى في النظم، حيث يرى إن قولنا: “للعبارتين معنى واحد” فيه تسامح، وإلا فأي عبارة لا تتحد مع عبارة أخرى في المعنى بتمامه إلا حين تكون هي هي لم تنقص حرف واحد، والأمر في الشعر آكدُ، لأن الشاعر منذ أن يهجس تتلبّسه اللغة، وهذا يعني أنّ هاجسه لغة، وشعوره الكامن في أعماقه لغة، وحين يريد إبراز الشكل الشعري فهو ينتزع هذه اللغة كما تشكّلت في محضنها الشعوري الأوّل، فإذا ما قام بالتهذيب لاحقًا فإنما يهذّب وفق النموذج الكامن في أعماقه تجاه ما أنتج.
يتبيّن من ذلك أنه ليس في وسع الشاعر أن ينقل تجربته الشعورية كما هي في شكل آخر غير الشكل الذي تلبّسه في حالة اللاوعي إن صح التعبير، فإن ظهر أنّه أعاد ما أنتج في شكل جديد، بلغة أخرى فصيحة أو عامية، فهو في الحقيقة لم يعد التجربة وإنما أعاد نظمها في قالب قد تظهر عليه آثار الصنعة والتكلّف، ولا تسلم له القصيدة المستوحاة من قصيدة أخرى حتى يستأنف لها شعورًا جديدًا تتشكّل به وهاجسًا يختار لغته التي يتمتم بها.
وفي نظري أن باب السرقات في النقد القديم وفكرة التناص في النقد الحديث كلاهما قائم على ذلك، فالشاعر لا يعيد الصياغة بقدر ما يتلبّسها في لحظة شعورية جديدة خاصة به، ذلك أن مخزونه من القراءات والتجارب كامن في لاوعيه، وحين يمرّ بتجربة شعورية يبدأ هاجسه الشعري في التموّج والانثيال، فيقع تحته ما يقع من العبارات والصور والأفكار، فإذا كانت حالته الشعورية عميقة تمتاح من تجربته الخاصة ستنصهر كل التجارب الأخرى في تجربته وتتشكّل ضمنها دون أن تسلبها خصوصيتها، وهذا معنى أن الشكل هنا يرتقي إلى مرتبة المضمون أو يصبح هو ذاته المضمون في بناء شعري، ذلك أن الشاعر صاغ تجربته ولم يقم بإعادة أشكال سابقة في صياغة شعرية ليس له منها سوى النسق والترتيب.
بناء على ما سبق من تصور يتضح أنّ الشعر يختار شكله، كما يختار لغته، وليس للشاعر خيار في فرض لغته على ما تختاره اللحظة الشعورية، إلا في حالة ما إذا أراد إغفال اللحظة وتركها إلى أن تعود مرة أخرى ومعها خيار آخر، أو على الأصح اختيار لغوي آخر، وكلامي هنا ينطبق على من يعيش التجربة الشعرية بشقيها العامي والفصيح، بصرف النظر عن الجودة التي يأتي الحكم عليها لاحقًا وفق المعيار النقدي، وهو على أية حال معيار يتجه إلى الشكل الشعري باعتباره هو موضع النظر عند الناقد الفنّي.
والحديث عن الناقد الفني يُعيدنا إلى الفكرة الأولى في المقالة حول علاقة الشعر بالنحت، إذ لا يعني هذا الناقد ما إذا كان الشكل المنحوت من ذهب أو خشب، لأنه ليس معنيّا بالمادة في ذاتها وإنما عنايته تتّجه إلى الشكل الذي هو موضع حذق المبدع، إذ يصح أن تكون مادة الشكل نفيسة لكنها رديئة الصنع، وقد يكون العكس، وبناء على هذا فالشاعر والناقد معا لا يمكنهما فصل الشكل عن المضمون في الفن عموما، وفي الشعر خصوصا، وكوننا نتحدث عن الشعر من المهم أن ندرك أن الشعر شكله هو مضمونه، ولا يعني ذلك الدعوة إلى ترك المعاني الشريفة أو اللغة العالية المبينة، فالعناية هنا تتركز على فكرة تدور حول سؤال افتراضي هو، هل في الإمكان الانفصال عن اللغة أثناء البوح الشعري، وبصيغة أخرى هل يمكن تحويل الشكل الشعري من لغة إلى لغة والتعامل مع اللغة الشعرية على أنّها مجرد وعاء كما نتعامل مع اللغة التداولية التي غايتها التوصيل لا التشكيل ؟ لا أعتقد ذلك وأرى أن الشعر يختار شكله كما يختار لحظة الزمنية المناسبة.
0