تنفرد هذه الجائزة بين الجوائز الأدبية الروسية – التي يصعب حصرها لكثرتها – ليس فقط بقيمتها المالية – مليون ونصف المليون روبل – بل بكونها جائزة مرموقة ومستقلة فعلاً ، ولا تخضع للتأثير القوي الذي تمارسه دور النشر والإشهار الروسية الكبرى على الجوائز المحلية ، عن طريق شيكات دعائية هائلة يعمل فيها ( نقاد) ، يكتبون مقالات منمقة عن اصدارات تلك الدور ، تحت مسميات شتى من نقد ومراجعة وقراءة وتحليل ، وإقامة حفلات توقيع الكتب ، واجراء مقابلات صحفية مع مؤلفيها ، وغيرها مما يدخل في باب العلاقات العامة .
لجنة التحكيم في جائزة ” البوكر” الروسية تتغير سنويا ، ما عدا السكرتير الأدبي للجنة ايغور شايتانوف ، رئيس تحرير مجلة ” قضايا الأدب ” الشهيرة ، حيث يتولى هذه المهمة منذ عام 1998 . وهو الذي أعلن قبيل الأفصاح عن اسم الفائز بالجائزة لهذا العام : ” أنا ذلك الأنسان الذي يخطأ دائما ويمنح الجائزة لمن لا يستحقها ” . رئيس لجنة التحكيم الكاتب (بيوتر اليشكوفسكي) – وهو الفائز بجائزة ( البوكر ) للعام الماضي – اعلن ان الرواية الفائزة هي ” أن تقتل بوبريكوف ” لألكسندرا نيكولاينكو . وقال رئيس اللجنة أن رواية ” ان تقتل بوبريكوف ” انجاز عبقري من حيث جمال اللغة والبناء الروائي ” .
مؤلفة الرواية الفائزة فنانة تشكيلية شابة متخصصة في تصميم أغلفة الكتب ، وهي معروفة الى حد ما بهذه الصفة لدى بعض دور النشر ، وغامرت بتجرّبة حظها في مجال الأدب ،
الكاتبة السعيدة لم تصدق انها فازت بالجائزة ، لأنها لم تكن تتوقعها ، وعندما نطق رئيس اللجنة باسمها في حفل التكريم ، اخذت تنتحب فرحاً. وقالت بصوت مخنوق وكلمات متعثرة : ” ان الأشرار في دور النشر رفضوا اصدار روايتي ، ما عدا الناس الطيبين في دار نشر جاليفر الجديد ، الذين ساعدوني وطبعوا كتابي “. وشهدت الجلسة الختامية للجنة من اجل تحديد الرواية الفائزة – من بين خمس روايات تضمنتها القائمة القصيرة – جدالاً حامياً ، وانتهت بإتخاذ قرار بالأغلبية لصالح رواية نيكولاينكو .
مضمون الرواية الفائزة
” ان تقتل بوبريكين ” رواية قصيرة من مائتي صفحة بضمنها الرسوم التوضيحية ، التي رسمتها المؤلفة بنفسها . ولم تلفت الرواية الأنظار عند نشرها ، ولم تجد اقبالا عليها ، وظل اسم الكساندرا – قبل فوزها بالجائزة – مجهولا ، سواء في الأوساط الأدبية أو بين القراء الروس .
عنوان الرواية يذكّرنا برواية ” أن تقتل طائراً محاكياً ” للكاتبة الأميركية هاربر لي” . تشابه في العنوان فحسب ، وليس المضمون او الأسلوب أو التقنية ، ذلك لأن رواية هاربر لي عمل أدبي رائع ، على النقيض من رواية الكساندرا نيكولاينكو ، التي لا ترتفع بمستواها الفني والجمالي الى مستوى رواية هاربر لي .
ساشا شيشين، بطل رواية نيكولاينكو ، شاب قصير القامة ، ضعيف البنية ، ومأزوم نفسيا ، فهو قلق ومتردد دائما ،طفولي السلوك ، خاضع لهيمنة امه الريفية الصارمة المتديّنة.
زمن الرواية قصير لا يتجاوز بضعة اسابيع بين عيدي الميلاد والفصح ، في إشارة تمثل رمزية متعمدة . وخلال هذه الفترة نجد أن كل يوم من أيام ساشا يشبه الى حد كبير سابقه. يستيقظ من النوم ، ويسمع تأنيب أمه ، ويتذكر شيئا ما من الماضي . ، يشتاق ويكره ، ويتذكّر أيام دراسته عندما كان يقضي معظم وقته مع حبيبته فتاة الجيران تانيا ، التي تركته وفضّلت عليه زميلها الآخر بوبريكين القوي الوسيم ، الذي تزوجها بعد تخرجهما في المدرسة منذ عدة سنوات، وانجبت تانيا منه طفلاً . ورغم ذلك ، فإن ساشا ما يزال يحب تانيا ، ولا يستطيع أن ينساها أبداً .
ساشا يستعيد في خياله كل الأوقات الجميلة التي قضاها مع تانيا. ولكن بوبريكين لم يكتف بأنتزاع الفتاة منه، بل اخذ يفسد عليه حياته : يضايقه ويغيظه حينا، أو يهينه ويسخر منه حينا آخر، عندما يلتقيان مصادفة في اي مكان، سواء في الطريق او في المصعد الكهربائي للعمارة التي يقيمان فيها . بوبريكين يشغل ذهن ساشا في كل وقت وفي كل مكان ، حتى في عالم الأحلام . وعندما يحاول ساشا استعادة ذكرياته الجميلة مع تانيا ، يبرز له بوبريكين هنا ايضا بنكاته السخيفة وكلماته الجارحة . بوبريكين يصبح بالنسبة الى ساشا ، رمزا للشر بسبب العديد من المتاعب التي خلقها له في حياته. يقول ساشا لنفسه :” بوبريكين كله شر ، انتزع مني حبيبة عمري ولكنه أفضل مني ، ولا بد لي أن اتخلص منه “.
ومن أجل التخلص من بوبريكين يخطط ساشا طوال الرواية تفاصيل عملية شنق خصمه بالحبل . وفي كل مرة يقتني فيها حبلاً من المتجر القريب ليخنق به عدوه اللدود ، يفشل فشلاً ذريعا ، حيث ينتزع بوبريكين منه الحبل ، ويدفعه بعيدا ، فيقع ساشا على الأرض وهو يلعن حظه العائر .
ساشا يعيش في انتظار تانيا دائما . وهما يلتقيان بالمصادفة أحياناً ، حيث تسكن هي مع زوجها وطفلهما في شقة تقع تحت شقته. ساشا يبعث برسائل حب الى تانيا ورسائل الى نفسه نيابة عنها . وفي الليل يتخيل انه يتحدث معها ، ويرسم صورة سعادتهما المستقبلية ، ويتذكر سنوات الدراسة عندما كانا يبحثان عن مدينة الزمرد ويحلمان بالهروب الى استراليا
ما من حبكة أو نمو شخصية في الرواية. الوصف فيه ممل، وثمة تكرار متعمد لكثير من التفاصيل الزائدة التي لا تلقي الضؤ على ما يحدث ، ولا تضيف جديداً الى فكرة الرواية . نهاية القصة مبهمة : هل قتل ساشا بوبريكين ؟ كلا .. بل ربما قتل تانيا . ولكن الأمر غير واضح . لأن كل شيء يجري في مخيلة البطل والذي يقول بينه وبين نفسه : ” كنت سأقتل الجميع “.
ليست هذه رواية رومانسية عن الحب ، كما تبدو للوهلة الأولى – خاصة حين يقحم الكاتبة فيها شعرا منثورا بين حين وآخر غريباً عن بنية الرواية – بل رواية فضفاضة حول الموت والقتل والامراض .قصة سوداء قاتمة لا امل فيها . الكاتبة صرحت بأنها كتبت قصة انسان ،ولكن هذا الأنسان ليس سوياً. سلوكه غريب وأفكاره المشوشة غير منطقية .
تقييم النقاد الروس
كان منح الجائزة لهذه الرواية مثار استغراب ودهشة . وقد أشار عدد من النقاد المعروفين بالموضوعية والحيدة ، الذين لا يرتبطون بدور النشر والإشهار الى أن هذه الرواية ليس فيها أي تجديد .أو مزايا ، ولا تستحق جائزة البوكر الرفيعة ، بل حتى لا تستحق أن تقرأ . قال الناقد (كونستانتين ميلجين) في تقييم نشرته وكالة (تاس) الروسية :” ليس في الرواية قضية اجتماعية . كل ما هو ممتع فيها يجري في ذهن بطل الرواية ببطأ شديد ، وفي النهاية نجد بين ايدينا 200 صفحة . هذا جد كثير . نص يمكن اختصاره الى ثلث أو ربع الحجم الحالي ليصبح قصة قصيرة عادية .
ونشرت الناقدة ( أولجا تيموفييفا) تقييما للرواية في صحيفة ( نوفايا غازيتا) المستقلة تقول فيه : ” ان ما يربك قاريء هذه الرواية ان المؤلفة تلجأ الى الإستعارات التقريبية والمقارنات المتنافرة على نحو متعمد من اجل البهرجة اللغوية ” .
وقال الكاتب والناقد ديميتري بيكوف في مقال تحليلي نشر في عدة مواقع الكترونية حول الروايات الخمس التي تضمنتها القائمة القصيرة للجائزة : ان لجنة التحكيم إختارت أضعف الروايات الخمس لسبب غير معروف ” .
وقالت الناقدة (ليزا بيرغر) في صحيفة ( كوميرسانت) : “يبدو ان جائزة البوكر الروسية تحاول دفن نفسها . مرة تخسر منح الداعمين لها ، ومرة تمنح الجائزة لرواية ايروتيكية – تأريخية (المقصود رواية الكاتبة ايلينا كوليادينا الموسومة ” زهرة الصليب” التي نالت جائزة البوكر الروسية عام 2010 ج.هـ) متصورة أنها كلمة جديدة في الأدب الروسي . او يحدث جدل علني بين اعضاء لجنة التحكيم عند تقديم الجائزة .
ان افضل ما يمكن أن نصف به جائزة هذا العام هو انها كانت مفاجأة حقاً ، فالجائزة منحت لرواية تخلو من اي مزايا فنية ، ولهذا يحاول النقاد البحث عن هذه المزايا الموهومة . الرواية تدور في مكان واحد ، ولغة الكاتبة تمتاز بتكرار الجمل . رواية تقليدية تعود بنا الى الحياة في الضواحي في اواخر العهد السوفيتي ، واذا كانت الرواية قد جذبت انظارنا فهذا دليل على ان ادبنا أصبح فقيرا جدا .
. الناقد “. الكسندر كوزمينكوف ، المشهور بملاحظاته القاسية ، قال ان الرواية غير قابلة للقراءة ، وانه يشعر بمتعة بالغة اذا ما القى بها في الفرن ، لأنها خالية من كل ما يمت الى الأدب بصلة.
رأي لجنة التحكيم
وردا على الإنتقادات الموجهة الى لجنة التحكيم لأختيارها رواية ” أن تقتل بوبريكين ” كأفضل رواية نشرت خلال عام 2017، قال عضو اللجنة الكسندر سنيغيرف ، الحاصل على جائزة البوكر في عام 2015 : ” ان احدى وظائف الجائزة هي اختيار الأتجاه الجديد في الأدب . علينا أن نحاول التنبؤ في هذا الشأن . وكتاب ( ان تقتل بوبريكين ) يعكس ما نلاحظه اليوم من انجذاب النثر الفني نحو الشعر . هذا قد يعجب البعض ، وقد لا يعجب البعض الآخر . ولكنه إتجاه جديد في الأدب الروسي المعاصر . وفوق ذلك يتضمن الكتاب رسوم المؤلفة التوضيحية للنص ، أي إننا امام توليف فني مطلوب الآن ، لأنه إنساني . واردف يقول : ” رواية ” الكاتبة الكسندرا نيكولاينكو مثال حي على البحث الإبداعي . واعتقد ان جائزة البوكر تمنح ليس فقط لكتب معينة ، بل أيضاً من اجل البحث عن اتجاهات جديدة في الأدب ، والجوائز الأدبية علامات في هذا الطريق .
رواية نيكولاينكو الفائزة بالجائزة هو مثال جيد على هذا المسعى . الكتّاب يحاولون التجريب . وفي هذه الحالة فإن النتيجة ليست بذات أهمية، لأن. المحاولة التجريبية أكثر أهمية.