تحضر مكة في الثقافة لا باعتبارها حاضنا مكانيا فحسب ، فمكة خصوصا تتجاوز أن تكون إطارا إلى أن تكون مدارا للثقافة ، فهي باعتبار التاريخ موئل الثقافة العربية ، و باعتبار الدين هي منطلق الثقافة الإسلامية ، و لا شك أن هذا الدور الثقافي المزدوج الذي تضطلع به مكة يجعل أي ملتقى ثقافي فيها ينطلق واضعا في اعتباره البعد الرمزي للمكان و ما يحيل إليه مما يتعلّق بثقافة الإنسان و المكان معا ..
أما ثقافة الإنسان ، فكون مكة هي مهوى الأفئدة و ملتقى الناس بسبب من عالمية الرسالة التي انطلقت منها ، فهذا يجعل كل ثقافة مكية ثقافة ضاربة الجذور في أعماق التاريخ ، منذ تلك اللحظة التي نبع فيها الماء و جعلها صالحة للإقامة بعد أن كانت واديا غير ذي زرع ..
و استحضار هذا التاريخ الذي تدفّق لاحقا بعد أن وفد الناس إلى مكة من كل فج عميق ، يمكن أن يلهم كل راصد للثقافة المكية العتيقة ما يجعل الثقافة أشبه بنهر فيّاض غمر إنسان هذا المكان و جعله محط أنظار العالمين .
فإذا صح لنا أن نطلق على إنسان هذا المكان بالإنسان المكيّ جاز أن نعدّه المستضيف التاريخي للثقافة العربية بدءا ، و الثقافة الإسلامية ، و على اعتبار أن الدين الذي انطلق من مكة عالمي ، فهو أيضا المستضيف للثقافة العالمية تبعا لرمزيّة المكان ، الذي اختاره الله ليكون مكانا لأوّل بيت وضع للناس ، و مكة إذن بهذا الاعتبار أول ملتقى ثقافي أُعدّ ليكون حول البيت الحرام ، كأثر لما يسبق و يلحق بشعائر الحج .
و أما ثقافة المكان ، فلا أظن مكانا آخر قد سبق مكة في التماسّ الثقافي ذي البعد المكاني بدءا من البيت العتيق ، و ما حوله من شعائر مكانية ، و تضاريس طبيعية ، من جبال و شعاب و أودية ، كلها شاهدة على خصوصية الثقافة المكية ذات الملامح المكانية ، و هي خصوصية تمنح مكة دورا ذا شقين ، شق يتعلّق بطبيعة المكان و قداسته ، و شق يتعلّق بعالمية الرسالة و شمولها و ديمومتها عبر الأزمنة .
و تبعا لذلك يمكن القول إن مكة ذات دور مركب ، عام و خاص ، مكانا و إنسانا ، فكما أن مكانها ذو خصوصية طبيعية فهو قبلة الناس أجمعين ، و كذلك الأمر فيما يخص الإنسان المكيّ ، إذ يفترض فيه أن يراعي الثقافة المكية الخاصة ، كما يراعي الثقافة الإنسانية عامة ، لأنّه المستضيف التاريخي عبر الأزمنة لكل الثقافات العابرة ، أو هذا ما ينبغي أن يكونه ، حين نستحضر عالمية الدين الإسلامي و رمزيّة المكان التاريخية و الدينية .
بناء على ما سبق يصبح الحديث عن مكة كملتقى ثقافي أبعد من حديث احتفالي أو عابر تبعا لمناسبة ، لأنه يتجاوز هذا الشعار الثقافي المؤقت إلى أن يكون حديثا في عمق الثقافة التي أبرز مكوناتها الدين و الإنسان و المكان ، فمن هذه الأبعاد و المكونات الثلاثة تستمدّ الثقافة دلالتها العميقة و هويتها الأصيلة.
و لأن جدة هي البوابة الكبرى لمكة و هي الفضاء الساحلي المفتوح على الثقافات فإن اختيارها مكانا للملتقي الثقافي بمنطقة مكة المكرمة يجعل هذا الدور عالميا و إنسانيّا معا ، فالساحل البحري في أي مكان هو فضاء ثقافي منفتح على الثقافات المتعددة و الحضارات المتنوعة ، و من هنا يكتسب الملتقى الثقافي دلالته بين الخصوصية لهذا الوطن السعودي الكريم و العالمية التي تعززها رمزية مكة باعتبارها المرجع المكاني لهذا الملتقى و تعززها جدة باعتبارها بوابة ثقافية متاخمة للبحر منفتحة على الفضاء الثقافي المتنوّع .
هذا التداخل المكاني بين رمزية القداسة و رمزية الحضارة هو ما ينبغي أن يعنى به المثقف السعودي الذي يستضيف المثقفين في هذا الفضاء المزدوج بين الهوية و العالمية و هي معادلة تجعل للثقافة في هذا الوطن قيمة مضاعفة ، إذ تمنحها موقع القدوة بين الثقافات ، كما تمنح المثقف السعودي الموقع نفسه بين المثقفين ، و هو ما أكّد عليه أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل ، و عززه بإطلاق قافلة الملتقى تحت عنوان :”كيف نكون قدوة؟” ، و دلالة “قافلة” تحمل من ضمن ما تحمل من دلالات رمزية عَبَق التاريخ و حركة الزمن و رسالة أهل هذا المكان للناس أجمعين ، رسالة الدين و اللغة و المكان التي تجعلهم جميعا محلّ قدوة ، سواء بالانتماء للدين الإسلامي أو اللغة العربية أو الوطن السعودي حاضن أرض الحرمين الشريفين .