تظل ذكريات البيوت التي عشنا فيها ودرجنا في جنباتها في الماضي أيام الطفولة حاضرة في الذهن لا تغيب عنا أبدًا، وتختلف عن كل مظاهر الحياة اليومية، كانت زاهية تشع بالنور وحاضرة في كل المواقف، لا زلت أشعر بأنها ترافقني كالظل، كم هي جميلة تلك الأمكنة، أراها تتلألأ في ذاكرتي كل يوم، كان للمكان ألفة وحميمية ولا تزال, أعيشها من خلال ذكريات جميلة كأحلام يقظة تمر أطيافها كل لحظة بومضها البارق، ذكريات أقف لها حد الدموع، فقد أخذت صفة الديمومة خلاف ذكرياتنا في المراحل اللاحقة فهي في أفضل أحوالها معرّضة للتشتت، وأكثر عرضةً للضياع والنسيان، نعم كل زوايا المكان كانت تشع حياة وألقًا بأبعاده المتعددة وتبايناته المختلفة ولا أزال أرصدها وكأنها ماثلة أمامي رأي العين، تلك المرحلة بأماكنها وتضاعيفها هي أحد أهم مراحل حياتي، اندمجت فيها بكل سعادة وأنس ليس لأنها مرحلة البراءة والطهر والنقاء، بل لأنني رصدت فيها معارفي الأولى مع أسرتي وأقراني، حتى إنها تشكلت بوعي في مرحلة لاحقة أدركت فيها كل شيء، وتعلمت فيها حقيقة الأبعاد المتعددة لبعدي الزمان والمكان، وفي الحقيقة أعجز تمامًا أن أتحدث عن كل بعد بوجهه المشرق، فالبيت ورواقه كمكان كان له بعد آخر يفوح عبقًا ويومض بالوهج، والمرحلة العمرية كزمان بكل أطوارها تتجلى فيها الذات وتتشكل، ويظل الوصف قاصرًا عن الحقيقة فمهما يطول الحديث لا يمكنني أن أفي طرفي الزمان والمكان حقهما، وستظل لحظات الزهو المفعمة بالجمال غائبة عن الحقيقة، لأن الوصف لا ينقل الحقيقة عينها ولكن يقترب منها نوعًا ما، وعلى مستوى الجمع هي مرحلة عامرة بعطاء الإنسان وتفانيه ونفعه المتعدي ليس لأخية الإنسان، بل يتعدى إلى البيئة نفسها، حتى إن البيئة والمكان عند الناس قد اتخذت بعدًا قدسيًا تلمح فيه قوة الانتماء والارتباط الحقيقي، كل شيء يرونه منتظمًا وله وضعيته وستبتدي به الحاجة يومًا ما، من يحاول المساس به يعد عبثًا ويزجر بصوت عالٍ، حفاظًا على المكان ورونقه الزاهي، ذلك الأسلوب الرادع يجعل كل شيء لا يتغير ويتعاظم في أعيننا كل يوم، بدءًا من مقدمة البيت (الرعش) الذي تُشكل ردهاته إطلالة بانورامية يشرف على أرجاء المكان، الرعش الذي تنتظم فيه حُزم الحطب وحنفية الماء المصنوعة من صفيح المعدن بشكلها الدائري، تستخدم لتخزين المياه حينما كانت القربة لا تفي بالحاجة، وفي أطراف الرعش جلسة ينجز فيها الكثير من الأشغال حينًا، وقضاء أجمل الأوقات أحايين أخرى، ثم ساحة البيت (الدكة) فالطرق ومفارقها المؤدية لكل مكان (الدرب والمجادير) ثم الجرن التي تُخبط فيها أكواز الذرة وتقع في أطرافها ردهات مرصوفة بالحجارة ترصف عليها بأحكام سنابل القمح بأعوادها الطويلة (الكبس)؛ لتستمر تحت أشعة الشمس استعدادًا للدياس في الجرين لاستخراج حبات الحنطة بعملية نوعية شاقة تحتاج إلى جهد آخر وأكثر وما يروح عن النفس ما يردد من أهازيج وأشعار، ومنها:
ياليتني يوم الدياس غايبي
أرعى الغنم في غمق الشعايبي
وحتى لغة الحماس هي الأخرى تحضر لتقهر كل شيء مستعصٍ، وتدفع إلى الاستمرار بقوة وحضور فاعل مثل:
إلي احتداه الخورم المنخشري
دق لو كانت عصيف اخضري
كان لكل شيء خصوصيته، وله بعده الجمالي ورغم مشقة الحياة في تلك الأيام إلا أنها كانت عامرة بالرضا، والبيوت هي الأخرى مفعمة بالسكينة.
استاذ عوظه الروعه تجلت في مقالك والكلمات كلها ذات معنا لم يخنك التعبير ولو ان ماعشناه لن يوفيه كل من خطت اقلامهم معشار مايستحق كنت اتمنا ان ترافق المقال الصور ليعرفو الاثار انهم مقصرون مع تراثنا والحفاظ عليه واتمنا تتطرق في مقالاتك لهيئة الاثار للأسف الشديد واقولها بحرقه لم يلتفتو لأثار احفاد الصحابه تحياتي لك
ماشاء الله طريقه ابداعيه في الوصف والشرح يفهمها الجميع وتدل دلاله واضحه على عمق فهم الكاتب وتمكنه من التراث وحيثياته وحبه وشغفه لواقعه وفاءه لمكان نشاءته واصالته التي تجلت في نشره لكل ما يشير الا وطنه..
…اشكرك من الاعماق ابو عبدالملك وتقبل شكري وتقديري..
الاشول وابو رامي , دمتم بخير وعسى ان نكون عند حسن الظن