في الساحة والبيت الذي عشت فيه تكونت ذكريات جميلة، ذكريات ارتبطت بالمكان الأليف بكل جوانبه فكل جانب عمق الآخر، وهذا التداخل هو ما جعل البيت ومحيطه متلازمين بوثوق وباستجابة من المشاعر نستعيد ذكريات الطفولة، كان بيتنا لا يختلف عن كثير من تلك البيوت فقد كان صغيرًا جدًا بل قد يكون متناهي الصغر في عالمنا اليوم، وكان في نظري فسيحًا جدًا بحجم هذا الكون، تبايناته كانت تخلق حالة من الاستمرارية للالتقاء والدفء والحب والتواصل العائلي والإنجاز في الحياة، كنا نتجاور حد الالتصاق مع بعضنا البعض، فكل توجيه يصل إلى الجميع كان البيت يجمع كل شيء تجتمع فيه لحظات السعادة والضجر، تجتمع فيه لحظات الاختلاف والاتفاق، حتى لحظات الانفعال الملتهبة، هي الأخرى تسدي درسًا آخر مباشرًا كي نحذر في قابل الأيام (التعلم بالخبرة)، كان بيتنا يتكون من دورين ومشطور إلى جهتين واجهته مطلة على المسجد وعلى الساحة الرئيسة للقرية كان يقع في جانب الساحة إلى المسجد شجرة الرقّع التي تمتد فارعة في السماء وتتدلى أغصانها العليا على زوايا البيت فإذا هبت الرياح في الأيام الشاتية تنقل رذاذ الماء من نافدة صغيرة إلى الداخل وما إن تزداد الرياح ضراوة حتى نحكم غلق النافذة، كان هزيم الرياح يحدث صوتًا أشبه ما يكون بسيمفونية أوبرالية تتناغم مع حفيف أوراق شجرة الرقع في حائط البيت، كانت شجرة عظيمة تؤتي أكلها كل حين، في ظلالها الوارفة قضيت أسعد الأوقات وشاهدت أجمل اللحظات وأمتعها, تعلمت من ساحتها كيف يكون الاختلاف وكيف هو الاتفاق، تعلمت كيف تنجز الأعمال، في ظلالها الوارفة كانت تذبح الأبقار في موسمها السنوي وتوزع شركة بين الناس، في ظلالها تبرم الاتفاقيات الناظمة للحياة فتتعالى الأصوات (اليوم يعقد الحمى) وما إن تشح الأرض بعد عطاء وفير حتى يتعالى صوت آخر فيُطلق من نفس الساحة عقد الأمس، فتتقاطر النسوة بحيوية لجلب الأعلاف للماشية ، فما كان بالأمس يُجرم الأخذ منه، اليوم حلٌ مباح، حركة دؤوبة ومنتظمة للحياة وتسير حياة الناس بميثاق لا يلغى، في ظلالها الوارفة كان تباع الفاكهة الموسمية (الخرفة) في ظلالها الوارفة كان يجلس (فرّقنا) بصندوقه الصغير، من ظلالها الوارفة انطلقت مع أقراني بصوت دعائي لبائع وبائعة الفاكهة وخصوصًا العنب والرمان والخوخ، فما أن يهدهد الهدهد بصوته في أول ساعات الضحى حتى تستشعر الناس موسم نضوج الفاكهة، حيث تقول الأسطورة إذا استشرف الهدهد الأمكنة وهدهد بصوته فذاك خبر نضوج محاصيل الصيف وفاكهته العذبة، ومن ظلال شجرة الرقع انطلقت مع أقراني طوال شهر رمضان إلى أرجاء القرية نرفع صوتًا يخبر أن أذان المغرب قد ارتفع ، كانت لحظة فارقة أشعر فيها بميلاد جديد أزاحم بصوتي الذي كنت أشعر أنه يعم فجاج القرية، ومن خلال ظلالها الوارفة أراقب الناس تغدو وتروح، إنها عوالم متداخلة أحدثت في حياتي البعد الآخر للحياة برمتها، كان بيتنا يتكون من دورين الدور الأول (السفل) وهو ينقسم إلى عدة أقسام مستودع للأعلاف وآخر للحطب وقسمين لحظائر البقر وآخر للأغنام، أما الدور العلوي فقسم للرجال، المجلس الذي كان طوال العام تمتد فيه زولية حمراء زاهية الألوان تعرف بالزولية العجمية، مصطلح تبعٌ لصانعيها من أقاصي الشرق، حيكت بعناية لها أهداب حمراء تميل إلى الدكنة ويتضح من ذلك صناعتها وصباغتها اليدويتين، لن أستطيع إهمال هذه الحقيقة أو تجاهلها من ذاكرتي فقد اكتسبت وجهًا فردوسيًا باذخًا لا يفارقني جماله، ازدان وجه زوليتنا الحمراء بأشكال هندسية متنوعة وكساها ذلك الملمح في نظري بعدًا آخر، قلما يفتح باب المجلس إلا لضيف قادم ولا يقع في ناظريّ سوى زهو زوليتنا الحمراء، وما أن يخرج الضيف حتى يغلق باب المجلس انتظارًا لضيف قادم، فجلوسنا الدائم كان في الشطر الثاني الذي كان يعرف بالموقد وكان هو الآخر على ضآلة حجمه ينقسم إلى ثلاثة أقسام غرفة والدتي رحمها الله (العلية) كان يفصل بينها وبين موقد النار (الملة) جدار خشبي (الرص) كان منضودًا ومنتظما كحبات الخرز المنتظمة, تشعر من خلاله بحرفية العمل والشكل المتقن، ولم يكن في العلية غير صندوق شاحب اللون غالبًا ما تغلقه والدتي بأحكام، داخل أحشائه أدوات زينة متواضعة وحلي قديم من الفضة ومفارد من الخرز ازدادت من القدم بريقًا ولمعانًا، كنت أراها جواهر ثمينة وهذا الشعور خلده لدي مفهوم آخر عرفته لاحقًا (الجنة تحت أقدام الأمهات)، وغير بعيد في وسط بيتنا ينتصب بشموخ عمود خشبي (الزافر) كان لونه أسودًا نقش عليه بعض الزخارف مطلي بمادة القار المستخرجة من شجر الزيتون (العتم) الأمر الذي منحه مزيدًا من الثبات والصمود مع اختلاف كل العوامل والتغيرات، ترتصف حوله شوالين أكياس الحنطة يعلوها مكيال من الخشب (المد) يكون محاطًا من الأعلى بإطار معدني فضي اللون ناغم من شكله وزاد من رونقه وجماله فغدى كالتاج وأيقونة للمكان، كان لأكياس الحنطة وتراصفها منظر جميل أخاذ حبكت اطرافها بقطعة قماش أبيض سميك زاد من إبداع تراصفها لتشكل لوحة جميلة في رواق المكان، ومع أن المكان ومحيطه كان صغيرًا جدًا، لكنه كان مغنيًا باذخًا في الجمال الذي تناثر في كل الأرجاء، والعطاء كان أكبر ومستمرًا وباستدامة لا تفتر, تغرب الشمس وننتظر شروقها وتشرق وننتظر غروبها فالوقت هو الحياة، وهكذا دواليك عطاء لا ينضب وهذا هو المعنى الحقيقي للحياة، تلك هي بعض ملامح الساحة والبيت الذي عشت فيه، حاولت جاهدًا أن أصل إلى صور الحقيقة، إذ لا يمكننا إحياء الزمن الماضي دون استناد جدلي حواري في الحاضر المعاش ، قد غاب الكثير الكثير، لكنني حاولت أن نعيش بعدي الزمان والمكان على حقيقتيهما وبانتماء وثيق وبين كل بعد وآخر لاشك امتلأت الحياة بالكثير الكثير من المعاني والمعارف وصور الحياة المختلفة مع تصارع بين السعادة والتعاسة، وكل ذلك كان محفوفًا بتفاؤل وأمل مستمرين في كل الأيام .. وإلى لقاء.
3
ذكريات عشت معها في الحلقتين أعادتني للماضي بكل تفاصيله ..
استعدت تلك الأيام والأمكنة والشخوص والتي تتشابه في كل مكان ..
تذكرت طيبة الناس وتكاتفهم رغم الشقاء ..
تذكرت ( الحليّة ) الجيران الذين يأتون أوقات الموسم ويعيشون مع أهل البيت في ذلك المكان الواسع حينها والذي نستغرب الآن كيف كان واسعا..
تذكرت ..
وتذكرت ..
وتذكرت ..
وتذكرت ……
تدمع العين حيناً ، وتأتي الإبتسامة حينا تبعا للذكريات ..
..
لا أقول إلا شكرا كاتبنا العزيز عوضة الدوسي على هذا الجمال ..
اخي علي طاب يومك ولك اجمل تحية
,
ومااشرت اليه ماهو الا دلالة على قدرتك الناقده وحسك في التذوق وخصوصا انك تعايشت مع الموضوع بكل ابعاده اتنمنى ان اكون دائما عند حسن ظنك وان يكون الطرح يرقى لذائقتك المتجاوزه , لك سابغ مودتي
ابداع ابداع في الوصف ونقلتنا الى الزمن الجميل بكل احساس وتلهف ونطلب منك اللمزيد لنعيش تلك الايام لاننا لن نعيشها الان الى كما نقلتها لنا بوصف رائع الى المزيد ابو علي..