لشهر رمضان الكريم في قرى سراة الباحة قبل 4 عقود نكهته الخاصة، ليس في أنواع الطعام والشراب، بل وفي الحميمية التي تُحلّق في أجواء القرية، والأريحية التي تنبض في قلوب سكانها، والبساطة التي تتجذر في أوردتهم.
القرية في ذلك الحين تكاد تنعزل عمّا حولها، ليس لها اهتمام في الشأن العالمي، حيث لم تصلها بعد القنوات الفضائية، فقط تستقي الأخبار الشحيحة من المذياع، ليتحدث بها القرويون في مجالسهم، أما اهتمامهم الأكبر فيتمثل فيما تنتجه مزارعهم من ثمار تسد احتياجاتهم الغذائية، فرأس مال المزارع تلك المسحاة التي يضرب بها أديم الأرض لتخرج خيراتها من سنابل الحنطة وعرائش العنب وأكواز الذرة، وللمساءات جماليتها أولًا: في التقرّب لله بالعبادات الخالصة، إلى جانب التسلية البريئة من خلال القصص الخيالية (الجثام، السعلية، هول الليل) وغيرها مما تنسجه الذاكرة سواء بطريقة مبتكرة أم معادة ليستفيد منها الأطفال، وتترسخ كدروس وعبر لهم في الحياة.
وما إن يهل أول يوم في شهر الخير حتى يتقاطر الفرح في قلوب الجميع شيبًا وشبابًا رجالًا ونساءً، حيث يدركون لما للشهر من فضل كبير يتم استثماره في الصيام والعبادة والصدقات والأعمال الصالحة، ولا يعيق صيامهم الشهر ممارساتهم اليومية في الكدح والعمل، فهم يسرحون إلى مزارعهم مع تباشير الصباح، وكل ذلك لا يمنعهم أيضًا من المرح والتسلية، فقد ابتكروا عددًا من الألعاب ليمارسوها في أوقات فراغهم ومن بين الألعاب «يالسح يالزم»، وتعتمد على القدرة الفائقة في العدو والبنية الجسمانية القوية والمراوغة حيث يتفق مجموعة من الشباب على طريقة اللعبة ينطلقون سعيًا في باحة القرية ومن يستطيع مسك الآخرين بتلابيبه يخرج خاسرًا، لتستمر بالتناوب بينهم، وهناك لعبة أخرى «الأمثال» حيث يتم نصب 3 أحجار ليقابلها على بعد 20 مترًا تقريبًا مثلها ويتنافسون في إصابتها بأحجار صغيرة، ليخضع المهزوم بحمل الآخرين وهكذا، وتعتمد على القدرة في التصويب، وهناك ألعاب تنمّي مهارة التفكير «كالقطرة» بأنواعها الثلاثية والرباعية و«أم تسع»، ويتم رسم الشكل على الأرض أو فوق ظهر صخرة وأخذ عجوات التمر أو المشمش ووضعها في مواقع محددة ونقلها بطريقة ذكية لتصبح في مصفوفة واحدة، وفي المساء بين صلاتي المغرب والعشاء يكون للسمرة مذاقها بتقديم عدد من المشاهد التمثيلية في الهواء الطلق دون ماكياج أو إكسسوارات أو ستار حيث يبرز هواة التمثيل من شباب القرية في تقديم مشاهد تمثيلية تُحقق المتعة للأطفال والشباب، وفي العصريات يلتف الأطفال في منظومة «يتفلتون» بترديد نشيد بسيط (فليت فليت ياعمة.. الله يكبر بنتك، وتسرح تأخذ حزمه، وتوطيها في السدة، ومن السدة للحدة) ليحصلوا على قليل من الحمص والتمر والحلوى -إن وجدت- وما إن يقترب عيد الفطر المبارك حتى يستعد الأهالي بتزيين منازلهم بدءًا بدهن النوافذ والأبواب بالقطران المستخلص من أشجار السدر بطريقة التقطير البسيطة وتشييد الواجهات الداخلية بمادة الجير البيضاء، التي يتم جلبها من مقاطع في سفوح الجبال، ومن يمتلك مالًا يتفنن في إضافة مادة زيتية مستوردة بأشكال متنوعة ويغلب طابع اللون الأخضر، وما إن يتم التأكد من حلول العيد حتى يطلق بعضهم الأعيرة النارية، وتُضرم المشاعل في قمم الجبال في أشكال زاهية ليصل الخبر في غضون ساعات لجميع قرى السراة، ها هي الذكريات تنوح في الذاكرة لمقارنتها بما يحدث حاليًا من تنافس محموم بين القنوات الفضائية في تقديم البرامج والمسلسلات لتصبح القرية جزءًا من العالم الكبير، بل إن بعضهم يصف العالم بقرية أو قرية العالم.
والقرية السروية التي عاشت ردحًا من الزمن في عزلة عن العالم أصبحت تؤثر وتتأثر بكل ما حولها من موجودات، ولكون الماضي كان خصبًا وضاجًا بما يبهج فإن توثيق تلك العادات لم تفت الروائي الراحل عبدالعزيز المشري في رواياته (ريح الكادي، الوسمية، صالحة) وغيرها من رواياته المشبعة بجماليات العبارة وحذاقة الوصف وجودة المضمون، ومن أجل الحفاظ على تلك الذاكرة من التهميش والنسيان فإن المسؤولية أيضًا تقع على الروائيين أحمد الدويحي، الدكتور معجب الزهراني، خالد المرضي، علي الشدوي، وعلى الدميني ونورة الغامدي باستنطاق الماضي الجميل للقرية ورصد وتوثيق تلك الحياة البسيطة التي غيبتها المدنية الحديثة لتبقى كومضات تبرق، والخسارة أيها الأحبة في انطفائها ومن ثم نسيانها..