دعيت لحضور ندوة صحفية حول المسؤولية الاجتماعية، برعاية أحد البنوك السعودية الكبرى، نظمها نادي الإعلاميين السعوديين التطوعي، بجدة. بدأ البرنامج بعرض عن المشاريع والمبادرات الاجتماعية التي يرعاها البنك. وشملت التدريب والتعليم وفرص العمل للأيتام والنساء، بالإضافة إلى دعم جمعية الأطفال المعاقين.
طالب الصحفيون بالمزيد، واعتبروا البرامج المذكورة “قليلة جدًا، بخيلة جدًا، ومتأخرة”. وذهب البعض إلى مطالبة الحكومة بفرض ضرائب على البنوك والشركات لحساب المؤسسات الخيرية. كان ممثلو البنك في وضع دفاعي، موضحين مقدار ما ينفقونه على هذه المشاريع (مئات الملايين)، والفوائد التي حققوها للجمهور المستهدف، والتقدير الذي تلقوه من الإدارات الحكومية المعنية. ومع ذلك، لم تقتنع وسائل الإعلام، وطالبت بالمزيد من “القطط السمان، التي تربح المليارات وتخرج الملايين فقط لذر الرماد في العيون!”.
في كلمتي، أخبرتهم أن قطاع الأعمال لا يدين لنا بشيء. فالبنوك والشركات، هي مساهمات عامة. يتم انتخاب المجالس من قبل الجمعية العمومية لخدمة مصالح الملاك من حملة الأسهم. وتتمثل المهمة الرئيسية للإدارة في تحقيق الأرباح المجدية وتسليمها للمساهمين، وهم فقط من يملك الحق بالتصرف فيها.
في نظام السوق الحر، يستفيد المجتمع من قطاع الأعمال في توفير وظائف ومنتجات بجودة عالية. ويتمثل واجبهم تجاه الحكومة بدفع الضرائب المستحقة والالتزام بالأنظمة والقوانين التي تخدم البلاد. ويخدم القطاع وطنه بدفع التقدم العلمي والتقني والاقتصادي الذي يعينه على المنافسة في الأسواق العالمية. كما تساعد مراكز التدريب التي تنشأها هذه القطاعات على رفع مستوى تعليم وخبرات الموظفين وزيادة إنتاجيتهم. وهكذا، تتحقق مصلحة الأمة، إلى جانب مصالح الملاك والعاملين.
البنوك والشركات ليست ملزمة بالصدقات، باستثناء زكاة الدخل التي تدفع للحكومة، للصرف على الضمان الاجتماعي. ومع ذلك، قد تسعى الشركات لتحسين سمعتها ومكانتها بتقديم خدمات إضافية، تطوعية، للمجتمع. فهي تتصرف بمسؤولية تجاه احتياجات المجتمع المحلي، عندما تقدم الدعم للجامعات والمبادرات الخيرية وجمعيات البر، وتساهم في تدريب وتأهيل الشباب لدخول سوق العمل، وترعى البرامج الثقافية والتربوية. وبذلك تكسب ثقة عملائها، وامتنان المجتمع، وتعاون الإدارات الحكومية، مما ينعكس على مكانتها وشعبيتها وربحيتها. هذه صيغة مربحة لجميع الأطراف، لن يعترض عليها أغلب المساهمين.
العديد من الشركات تقوم بذلك. شركات مثل: أرامكو، والبنك الأهلي التجاري، والمجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، وصافولا، كرست برامجها لخدمة المجتمع. وهناك شركات خاصة وعائلية مثل الراجحي وبن لادن وعبد اللطيف جميل وبن محفوظ وفقيه والبيك وسيدكو ونسما، تقدم أكثر من ذلك، نسبة لرأسمالها ودخلها. ذلك أن الإدارة تملك أعمالها وبالتالي لاتحتاج موافقة مسبقة من المساهمين.
لقد منح الشيخ سليمان بن عبدالعزيز الراجحي وحده كل مايملك (أكثر من 40 مليار ريال) للأعمال الخيرية، بعد أن قسّم (مقدمًا) قرابة نصف تركته على الورثة. ويشمل وقفه أسهمه في بنك الراجحي وفي جميع الشركات والمزارع والعقارات التابعة له. وقد استطاع مع بقية نظّار الوقف من الأبناء والثقات تنمية وتطوير الأصول. فشركة الوطنية، مثلًا، كانت خاسرة قبل أن تضم إلى الوقف، واليوم تعتبر من أكثر أصول الوقف ربحية.
علمني كيف أصطاد السمك بدلًا من أن تعطيني كل يوم سمكة.
المسؤولية الاجتماعية لا تعني توزيع الصدقات والمعونات للمحتاجين، فهناك جمعيات وأفراد يقومون بهذه المهمة. فأثرياء مثل (مع حفظ الألقاب) صالح الراجحي، صالح كامل، محمد عبداللطيف جميل، عبد الله بقشان، صالح التركي، عبد الله باحمدان، محمد وعبدالله البراهيم السبيعي، يقدمون الدعم للأسر المنتجة والمنح الدراسية للمتفوقين من أبنائها. والشيخ سليمان الراجحي الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام ووقفه الخيري، بنى جامعة للعلوم الطبية ومستشفى جامعي في مسقط رأسه، بالبكيرية، القصيم. ما نحتاجه اليوم أكثر هو مساعدة المحرومين للتعلم والتدرب والعمل.
نحن بحاجة أيضًا إلى بنوك للفقراء. البنوك التجارية لا تقدم القروض الصغيرة للمشاريع الصغيرة أو ذات المخاطرة العالية. باب رزق جميل، من برامج المسؤولية الاجتماعية لعبد اللطيف جميل، يقوم بذلك الدور، إضافة إلى توفير فرص التعليم والتدريب، وتمكين الشباب من العثور على وظائف في السعودية ومصر والمغرب.
ومع ذلك، فإن هذا كله لا يكفي. نحن بحاجة إلى بنك غير ربحي لمساعدة الأقل تأهيلًا، والأسر المنتجة، وأصحاب المشاريع، وشباب الأعمال على دخول السوق والنجاح فيه. نحن بحاجة أيضًا إلى تشريعات داعمة، وجمعيات تعاونية، ومراكز استشارية، وحاضنات أعمال، ومحلات منخفضة الإيجار، ومعارض وطنية، وما إلى ذلك من المبادرات لمنحهم الدفعة اللازمة للانطلاق.
المسؤولية الاجتماعية، كما هو مخطط لها في الرؤية السعودية 2030، هي مسؤوليتنا جميعًا. فكل جماعة وكل فرد مطالب بالمساهمة في خدمة وطنه ومجتمعه. وهذا يقودنا إلى حديث آخر، في مقالة أخرى، عن العمل التطوعي، فإلى لقاء.