بينما كنتُ بمحطة القطار الرئيسية في مدينة (ميلانو) الإيطالية، ذات الأدوار المتعددة والمرافق الواسعة، همستُ إلى صديقي (سولو) الذي كان برفقتي: (سولو) انظر إلى تلك المرأة العجوز كيف تبدو؛ وكأنها ساحرة أو من ذوات الشعوذة اللاتي يتاجرن بالخرافة والوهم.
فقال لي وهو يضحك: أنتم العرب تستهويكم الغرابة وتسترعي انتباهكم، وأردف وهو يحدق فيها: حقيقةً نحن في أوروبا نرى العجب ولا نتعجب، فنحن نؤمن بالحريات التي تقود لتباين الظاهر والباطن بخلافكم أنتم.
فقاطعت حديثه المعتاد، بقولي الذي أعتقد أنه أهم مما يتحدث وينشغل به، عن منظر تلك العجوز الساحرة: (سولو) أنت متخرج في جامعات العرب وتعرف لغتهم، وتؤمن بالإسلام الذي يُحرم السحرَ والحريةَ التي تقود لعالمه المفتون، فضحك ثم سكت !!
عندها فضلتُ السكوتَ من أن يتشعب الحديث بيننا إلى ما لا طائل من ورائه، وفي صمته الذي لم يدم طويلًا همس لي مندهشًا: خالد إنها عربية وتومئ لنا بطلب الحديث ؟!
فاقشعر جلدي من نكارة شكلها وقبح القلائد التي تزيد من بشاعتها الممتلئة بكل دلائل الريبة، غير أن الفضول الذي استولى علينا جعلنا نتقدم للحديث معها.
فاستهلت حديثها: أنا عراقية من بغداد.
فقلت لها: وأنا قرشي من مكة، وهذا صديقي (سولو) صربي مسلم، تخرج في جامعاتنا الإسلامية وفيها تعرفتُ عليه، فهو مسلم عربي اللسان.
غير أنها لم تتح لي الكثير من الوقت لتقول: وما الذي جعلكما تنشغلان بالحديث عني لدرجة الوجوم الذي خيم عليكما.
فقلتُ: وكيف علمت هذا؟!
فضحكتْ قائلة: نحن العرب نتقن الإصغاء ونجيد التعبير، ولكننا نكره الحقائق ونحب الزيف والاتهام.
فقلتُ لها: لا بأس دعي العرب وشأنهم، وحدثينا عن هذا الذي يحيط بمعصمك ويتلوى على عنقك، فقالت: هذه عُقد الحقيقة وخرزات الكهنوت، فتبسمتُ ورأسي يغلي دمُه من شدة التوجس كالقدر الذي استجمع غليانه.
فقلتُ: وهذه طرائق كسب أم تعبد ؟!
فقالت: وهل تحسن التفريقَ بينهما أنت ؟!
فضحكتُ لأقول لها: من يُحسن التفريق في سؤاله، يفهمه جيدًا عند الجواب !!
فقالت: حالكم يقول غير هذا.
فقلتُ: حال من ؟!
فقالت: حال الذين يستحدثون في الدين ما يشق علينا فك أسراره !، ويكرهون منا سبر أغواره !.
فقاطعها صديقي (سولو) قائلًا سيدتي: لن يسعفنا الوقت لمعرفة الكثير عنك، وسماع المزيد منك، ولكن هي فرصة جيدة أن يلتقي العرب في بلاد العجم، وليس من الجيد أن تكون الوهلة الأولى للخلاف وتباين القناعات.
فقالت: لو كان في الوقت متسع لسمعتم مني الذي أنتم له تدعون و لستم له بأهل ؟!
شدني قولها هذا .. ثم رفعتْ يدها قائلة بصوت يتحشرج:
سعيدة بكما، ولكن تأكدا أن السعادة لا تأوي لقلب لا يحسن الظن بالآخرين !!
فقلتُ لها: أي ظن هذا ؟!
فقال: لا تقلق فالساحرات متسامحات لدرجة العفو.
فشكرتها واعتذرت لها عن سوء الفهم وسرعة التجني، وتمنيت لها سفرًا سعيدًا ووصولًا سالمًا إلى ذويها، فلما هممتُ بالانصراف والخلاص من هذا الموقف الذي لم أحسن التنبؤ به.
فقالت -وأنا أتلمس حقائبي للانصراف- يا أنت: ربي وربك الله،
والسحر الذي تقتلون ممارسيه في بلدانكم، تفعلون الغاية منه !!.
فانعقد جبيني انعقاد المُنكر، فقالت: أنتم تفرقون بين الناس !!..
وتجعلون منهم البر والفاجر، والمقبول والمرفوض، وربما منعتم الرجل من حقه، والحق من ذويه !، وهذا الذي يعمله الساحر في سحره، والمشعوذ في خلوته !!.
وأنتم تعتنقون الإسلام، وترفضون أهله،
وتنادون بالمُثل ولا تقيمونها بينكم،.
يا أنت: أنا عراقية مسلمة، سلب الكفارُ مني كل شيء إلا ديني ومسابح المصلين بالجامع الكبير في بغداد، جعلتها في معصمي وعنقي، منذ أن غادرت بغداد في أوائل التسعينيات تاركة قومي شهداء كرامة مقبلين غير مدبرين، أتَذَكَّرهم بعد كل صلاة وأنا أسبح لله على هذه المسابح الشاهدة لهم ولي.
إن مسابح المسلمين كريمة كرامة التسابيح التي عُقدت عليها، ولن أبقيها لرعاع هنا أو هناك خشية أن يطأوها تحت أقدامهم النجسة، الناس كلهم يعرفون عني هذا ويثنون على وفائي،
إلا أنتم وبقية المؤمنين من أمثالكم الظانين بي ظن الجاهلية !!
فانتبهتُ على نداءات صديقي (سولو) يستحثني لصعود القطار الذي أوشك على الفوات، فانصرفتُ وأنا أشاور لها بيدي وأهتف بلسان عربي مبين لا يفهمه الذين من حولنا:
(ما أجمل وفائك،
وأقل أمثالك،
سامحيني أرجوك،
مع السلامة سيدة المسابح).