في هذا الزمن ربما صح منطق أن المرء يكتب لنفسه ، و أنّه هو قرّاؤه ، بل على الكاتب أن لا يحلم بأكثر من ذلك ، و لا أن يحمل الأمر محمل عدم الجدوى ، عليه أن يتحسس الذات بالكتابة و أن يؤكد وجوده عبرها . لا بأس أن تتهلل أساريره حين يظفر بقارىء أو أكثر ، و لا بأس أن يبتهج بعدد متابعيه ، لكن لا ينسَ أن ما يكتبه من شعور أو ما يطرحه من أفكار هو في بادىء الأمر بحث عن ذات مخبوءة في دهاليز الشعور و الفكر ، و أنه حين يكتب فإنما يضيء ذاته ، أو على طريقة باشلار ، يشعل شمعته و يوقد فكرته بجوار كوخ قصيّ هو هذا العالم الذي يسكنه خارج العالم .
و حين يتفاعل الكاتب مع ذاته بهذا الإحساس لا تعود الكتابة بالنسبة إليه سوى ألبوم صور لكلماته التي تختزن ذكرياته ، إذ يرى في كل كلمة بلّورة مضاءة تحوي كثيرا من تفاصيل الماضي كما تحوي الشفرة الوراثية تفاصيل الجينوم البشري ..
من هذا المنطلق لا أحمل على من يكتب لنفسه حملة ساخرة ، إذ لكل زمن قوانينه الخاصة ، و قانون هذا الزمن هو أن تكتب لتصنع عالمك الخاص ، لا أن تكتب لتُقرأ ، فإذا أضمرت قارئا ما فليس هذا القارىء سواك ، و إذا أنجزت مشروعا فإنما تنجزه لتكون أوّل القراء الذين يحتفون به ، و ربما آخرهم حين يتحوّل العمل الكتابي إلى ذاكرة لا تلهم غيرك و لا يعيش تفاصيلها بحب إلا القارىء الساكن في أعماقك .
هكذا أفهم معنى الكتابة في عصرنا الراهن ، و ما القرّاء الآخرون إلا عابرون في كلام عابر ، على حدّ تعبير محمود درويش !
إن الكتابة صيرورة وجود ، لا بمعنى أنا هنا ، و إنما بمعنى إنتاج الأنا بالمعنى الوجودي العميق ، الصيرورة عبر الكلمات و العبور عبر السطور ، و البحث عن عالم داخل كينونة أخرى هي كون الكتابة الذي يصير به الفرد موجودا داخل شكله الكتابي ، فيرى نفسه من خلال ذلك كما يشعر بها شعورا مضاعفًا لا يتحقق بالمستوى نفسه خارج الكتابة .
هنا لا يمكن تصوّر أن يكتب المرء لغيره ، أو تصوّر أن الكتابة نشاط ذهني يراد به التواصل مع الآخرين فحسب ، إنما هو نشاط يراد به في غايته الأولى التواصل مع العالم الداخلي للكاتب نفسه دون وضع أي اعتبار لما يحدث بعد ذلك من علاقات إنسانية و تواصل مع العالم الخارجي في حدود النشر.
تأتي تبعا لذلك صناعة وعي الآخر ، من خلال وجود ذات كاتبة تستحق فيما بعد أن تكون موضع اهتمام أو لا تستحق ، المهم أن الكتابة لم تعد ذات بُعد تواصلي بالمعنى الكامل ، و هذا في نظري يمنح الكتابة صدقا عميقا و إن لم تكن في مستواها الفني كاملة الشروط ، كما يجعلها حين تحقق نجاحا على المستوى التواصلي كتابة فاعلة لا تعبر دون أن تترك أثرا في الوجود قد يصل إلى درجة التغيير المباشر في القارىء الآخر الذي لم يكن حاضرا في حسبان الكاتب بادىء الأمر .