علم النفس بحر يبحث في غياهب النفس الإنسانية حيث القوانين تخجل أحياناً من أن تلبس ثوب العموم والتعميم والقواعد تشذ عنها بعض الاستثناءات ، فتلك الخطوط العريضة التي يدرسها دارسو علم النفس على أساس أنها مسلمات أو نظريات قد أثبتت صحتها وثباتها السنون والأبحاث والتجارب ، لانجد صداها على أرض الواقع بالقلم والمسطرة كما يقول الكتاب ، فكثير من النماذج البشرية لايتبع تحليل شخصياتها ومكامن العقد فيها تلك التفسيرات والنتائج وتفشل النظريات في تقديم تبريرات لكثير من سلوكيات الأشخاص خاصة حين يحاول أحدهم تطبيق ذلك على ذاته فنادراً مايعرف كيف يفعل ومن أين يبدأ وإن نجح افتراضاً فلا عزاء لمن درس وقضى أعواماً يستذكر ويتفوق وكأنه فجأة قد فقد ذاكرته أو مُحِيت حصيلته المعرفية .
ذاك التخبط إنما يأتي من حقيقة مفادها أن الإنسان قادر على إفادة سواه دون نفسه ، فالطبيب المتميز غالباً يعالج عشرات المرضى ونادراً مايعرف أن يعالج جسده ، والسياسي الفذ يضع الاستراتيجيات و يفند الحيثيات ويحل التعقيدات بلا نصب لغيره من القادة فإذا ما وصلت اللحظة الحاسمة ووُضِع هو في المحك تراه قد أصابته الحيرة وأخفق في إيجاد المخرج والحلول .
وذاك الخبير المالي المحنك تراه يفصل في قضايا المال والأعمال ويعطي لكل أمر نصابه وحين وقوعه في إشكال مالي وحفرة من حفر مشاكل الاقتصاد تراجع لديه مخزونه الثري من معلومات وخبرات وابتعد عن الحل الصحيح ميلاً بعد ميل .
والقاضي العادل المقسط ذو الهيبة والوقار والتقوى ومراقبة الله ، يطبق أحكام الشريعة ويصدر أحكاماً مستقاة من الفقه الإسلامي بكل ثبات وثقة فإن صار هو الخصم أو أصبح هو صاحب القضية سقط في يديه وتزاحمت كل معلوماته في عقله وقد يعرف القرار الصائب لكن يحتار كيف ينزله بنفسه ، وبالطبع لانعمم في هذا المقام بل نقصد بعض القضاة وقلة منهم لاجميعهم حاشاهم من الحيرة والتخبط .
هكذا لك أن تقيس على ذلك جميع عناصر وأطياف المجتمع وفي جميع المواقف والحالات ، فكم من إنسان يجهل حنايا نفسه وزوايا شخصيته من باب أنه يعرفها ويظهر ذلك الجهل بالذات في حال اضطر إلى مواجهتها بما قد يؤذيها أو يؤلمها أو يضطر الفرد أن ينصف الآخرين من نفسه ويوقع عليها عقاباً أو يصدر عليها حكماً قد يلزمه بتقديم التنازلات و دفع المقابل ، وأكثر مايدل على أن النفس أصعب من أن يحتويها صاحبها هو عدم قدرة أغلب الناس أن يضعوا أنفسهم مكان الآخرين فإن أخذوا أرادوا الحق كاملاً لهم وإن قدموا للآخرين بذلوا العطاء منقوصاً وهذا طبع الأغلبية للأسف ، يرى ما له ولايرى ماعليه .هذه أم قد زوجت ابنتها تشكو من ضعف حظها وسوء سلوك أم زوجها معها وبعد عدة أعوام أو ربما في ذات الفترة قد تمارس أصنافاً من التعذيب مع زوجة الإبن في ازدواجية عجيبة لامبرر لها .
والأخت المغلوبة على أمرها من زوجة الأخ التي جرعتها الأسى تجدها إن تزوجت تلعب ذات البطولة في عمل درامي اسمه كيف تؤذين أهل زوجك ! وطالبة الطب المريضة التي تشكو من إهمال المسئولين عن الصحة هي نفسها التي تقصر في واجبها نحو المرضى حين تتخرج وتصبح طبيبة ، والمرأة التي تعيب على أخرى زواجها من رجل متزوج قد تقوم هي نفسها بذات الفعل بعد برهة من الزمن ولاختلاف الظروف ، والموظف الذي يتشدق بما يجب ومالايجب من مديره مستنكراً كل أفعاله وقراراته ربما تصرف بما هو أبشع حين تدور الكراسي و يعتلي كرسي الإدارة فيما بعد ، والمواطن الذي ينتقد جميع الوزراء والمسئولين ويتفاخر بأنه لو صار وزيراً أو مسئولاً مهماً لأصلح كل مائلة تجده إن تحقق حلمه وقد نسي هموم المواطنين وملأ جيوبه نهباً واختلاساً .
السؤال الهام : لمَ ؟ لماذا ينقلب الفرد بقناعاته ومبادئه من النقيض إلى النقيض بعد تحول الظروف؟ هل يعود ذلك إلى الكذب والنفاق؟ أم أنه ديدن الإنسان حين وجوده في عرض البحر يصيحُ داعياً مستغيثاً تائباً فإذا مانجا إلى البر نسى وعاد ليجمع الذنوب من جديد !!
في الحقيقة إجابة السؤال تكمن في هذه العبارة ( علم النفس إنما هو دراسة لعلم نفوس الآخرين ولا يمكن تطبيقها كدراسة وعلم على نفس ذات الإنسان ) فالإنسان قد ينصح ويدعو بما لايعمل وقد ينادي بما لا يفعل وقد يجهل مكنونات ذاته إلى درجة يظن معها أنه يعرفها حق المعرفة بينما هي المجهولة النائية والبعيدة البدائية ، لم يهذبها من جذورها ولم يكتشف مجاهل قاراتها ، فموانئُها بقاع بائدة ويابستها أرضٌ هالكة وبحورها أعماقٌ غامضة لادالّ لها في الظلمة ولادليل .
ولا أدل على ذلك من كون عدد غير قليل من أطباء النفس وعلمائها وأخصائييها مصابون بمشاكل نفسية وأمراض وعقد يعجز المجتهد في حلها و علاجها وقد لايشعر بها ذات العالم بالنفس ولكن يراها كالشمس ويعاني منها من حوله .
فلا حقيقة دامغة في محاولة صياغة التعميمات حول النفس البشرية ، فقد خلق الله أطيافاً من اختلاف ونماذج من نفوس لاحصر لها ولازال ذلك يفاجئنا في تعاملاتنا ومواقفنا الحياتية كل يوم ومهما كان الشخص قريباً أو مألوفاً لدينا .
وصدق الخالق سبحانه وتعالى حين وصف أنواع الأنفس في القرآن مابين مطمئنة ولوامة وأمارة بالسوء ، فالنفوس زخمٌ وفي مكنونها ازدحام وطوبى لمن نجح في اكتشاف بعض نفسه فضمن تصالحه مع ذاته.
تعرف على نفسك أولا سيدي المتصفح لهذه السطور ، لربما كان حظك من معرفتك بها هو فقط … إسمك !
مقال رائع .. تحياتي لكي .. وسلم عطاءك..
كلام جميل وإسلوب سلس وقلب متدفق بالمحبه للناس والكون
تحيه من القلب لماسطرتيه ياغاليه????