تمتع العرب بالتوازن زمن الحرب الباردة، وغابت لديهم استراتيجية عربية مشتركة تجنبهم خطر الانكشاف الاستراتيجي بعد انتهاء الحرب الباردة، بل على العكس عانى العرب من أزمات وصراعات بينية بعد توقيع أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد، وقاطع العرب مصر وتم نقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.
حاول صدام حسين أن يقنع الملك فهد بتقاسم منطقة الخليج، بأن تستولي السعودية على قطر والبحرين، والعراق يستولي على الكويت، لكن تجاهل الملك فهد هذا العرض حتى فوجئت السعودية بأن صدام حسين نفذ عرضه واحتل الكويت بتأييد فلسطيني أردني يمني، ودخلت المنطقة العربية في صراع صدامي آخر وسيطرت سوريا في المقابل على لبنان، وأرادت إيران احتلال البحرين لولا يقظة السعودية حتى أصبحت الدول لا تأتمن بعضها البعض في منطقة الشرق الأوسط.
واصل العرب العيش في أتون غياهب الظلام، ولم يستوعبوا أن منطقتهم خزان للطاقة، وأن أمريكا لن تترك المنطقة للطامحين بلعب دور أكبر من حجمهم الحقيقي بسبب أن أحلامهم غير الواقعية تدفعهم للاستيلاء على دول مجاورة مستقلة، وغفلوا عن طبخات ومصائد أمريكا الماكرة.
بسبب أن المنطقة العربية كانت واقعة ضمن مشروعين قومي وإسلامي، فالقومي يردد أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، والإسلامي يردد أمة إسلامية واحدة وترويجهم للخلافة الإسلامية، خصوصًا وأن هناك التقاء بين مشروعي ولاية الفقيه والخلافة الإسلامية التي تعثرت في مصر ولكنها بدأت تبحث عن الالتقاء والتحالف مع مشروعين في إيران وتركيا، وكلا المشروعين هما من المشاريع الهلامية التي استباحت المنطقة العربية وأدخلتها في أتون صراعات دامية وخرج من تحت عباءتهما مليشيات إرهابية مسلحة.
هناك استراتيجيات لدى أمريكا خصوصًا وأنها تدرس مرحلة الطلاق الاستراتيجي مع الناتو الذي لم يعد يؤدي دوره كما كان أثناء الحرب الباردة ويراه ترمب مثله مثل حلف وارسو الذي تفكك.
فيما البعض يتحدث عن ناتو عربي أمريكي إسرائيلي لمواجهة النفوذ الإيراني، ويعتقدون أنه أتى بعد طبخة أمريكية ماكرة عندما أوهمت إيران بأنها دولة قادرة على تحقيق طموحاتها التاريخية على غرار ما فعلته أمريكا بصدام حسين ثم انقضت عليه، وهي تود الانقضاض على إيران بعد انتهاء دورها أو أنه أتى دورها للانقضاض عليها لتعيش إسرائيل في مأمن.
لذلك يرسل ترامب إشارات لتشكيل ناتو عربي أي سعودي أمريكي إسرائيلي لمواجهة النفوذ الإيراني، لكن في الحقيقة أن أمريكا تؤسس لمرحلة القرن الأمريكي في مواجهة التنين الصيني، وتود من هذا الناتو بأن تتخلى السعودية عن التحالف مع الصين، خصوصًا بعدما سهلت السعودية للصين بإنشاء أول قاعدة عسكرية في جيبوتي، وسهلت للصين توقيع اتفاقيات مع الكويت ودولة الإمارات وبالطبع من قبل مع السعودية من أجل العبور إلى قارة أفريقيا، والسعودية ترى من حقها أيضًا أن تكتشف الفرص السانحة وتقتنصها ولن تستمر تحت رحمة الولايات المتحدة حيث تدرك السعودية أن الولايات المتحدة تخبئ ملفات كثيرة حفاظًا على مصالحها، وتركت الإنسان العربي تتقاذفه الأمواج وتنهش جسده الذئاب وعلى رأس هذه الذئاب إيران التي مزقت الجسد العربي.
هناك بين السعودية وأمريكا تعاون يتعلق بالدفاع الصاروخي والتدريب العسكري ومكافحة الإرهاب، لكن فيما يتعلق بتشكيل ناتو عربي التي لم تتضح معالمه حتى الآن خصوصًا وأن السعودية لن تقبل بخطة مبتورة، ولن تقبل بإشارات مجردة لم يسبقها موقف محدد وواضح.
أمريكا أيضًا ترى في تركيا الرقم القلق في هذه التحولات بعدما كانت الولايات المتحدة ترى في تركيا بأنها تتمتع بموقع استراتيجي وبموقع حيوي وإن بدأ يتلاشى هذا الاعتقاد مع تغير الثوابت الأميركية في المنطقة.
ولا يزال مشروع إقامة الدولة الكردية قائمًا لدى أمريكا ولا زالت أمريكا تحاول التسويق لمشروع إقامة الدولة الكردية وتعطي إشارات بأن هذا المشروع بموافقة سعودية مستثمرة الصمت السعودي، وبالطبع هناك تأييد كبير جدًا من إسرائيل لهذا المشروع من أجل تقويض أكبر دولتين في المنطقة وهما إيران وتركيا باعتبارهما يهددان مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
العقوبات الاقتصادية العصا الأمريكية الغليظة لتأديب الدول المارقة في المنطقة وهما إيران وتركيا اللتان تتلاعبان بالأذرع الإسلامية ومليشياتها في المنطقة، وأمريكا ليس فقط منزعجة من إيران بل أيضًا منزعجة من تركيا التي ضغطت على حلفائها في سوريا شرق الفرات مما أثرت على التخطيط الاستراتيجي الأمريكي بعدما اضطرت أمريكا إلى تقليص أعداد قواعدها في المنطقة، مما خلق ثغرات في الانتشار الاستراتيجي للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط استثمرته روسيا.
ما جعل تركيا تتابع بقلق بالغ من تزايد النفوذ السعودي على حساب نفوذها بعدما حققت تركيا نموًا مرتفعًا في عام 2017 بنحو 7.5 في المائة ولكن بنسبة تضخم عالية وصلت إلى 16 في المائة، ما جعل تركيا تلجأ إلى تحميل دول عن أسباب تدهور عملتها وهي تشير إلى السعودية ودولة الإمارات بشكل ضمني، رغم أن أسباب جذور أزمة الليرة التركية يعود لما هو أبعد من التوترات بين واشنطن وأنقرة، وترجع أساسًا إلى أسباب سياسية وإلى انعدام التوازن الاقتصادي.
حيث تواجه تركيا أخطر تحدياتها منذ الأزمة المالية عام 2001 في أعقاب تدهور الليرة تدهورًا حادًا مقابل الدولار، وفي يوم واحد في 10 أغسطس 2018 فقدت العملة التركية 16 في المائة من قيمتها بعدما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مضاعفة الرسوم الجمركية على الألمنيوم والصلب المستورد من تركيا وفقدت 40 في المائة من قيمتها منذ بداية عام 2018 حتى شهر أغسطس.
وهناك أزمة بين أمريكا وأنقرة بسبب عقوبات فرضتها أنقرة على قس أمريكي أندرو برانسون بتهمة الإرهاب أثار هذا التوتر خوف المستثمرين القلقين أساسًا إزاء انعكاسات خلاف بين تركيا والولايات المتحدة.
حيث يعاني الاقتصاد التركي تضخمًا يقترب من 16 في المائة وبعجز في الميزان التجاري وبنظام مصرفي مثقل بالديون بالعملة الأجنبية تصل الديون إلى 220 مليار دولار، وأردوغان يرى تخفيض الفائدة من أجل تخفيض نسبة التضخم.
ما يعني أن السعودية ترسم سياساتها وفق خطط مدروسة وواعية للتحولات الدولية، وهي تقيم شراكات اقتصادية متنوعة مع الولايات المتحدة وروسيا والصين ومع بقية دول العالم، وهي ليست مسؤولة عن إنقاذ الليرة التركية خصوصًا وأن تركيا كانت سبب في تفاقم الأزمة الخليجية عندما أقامت قاعدة عسكرية في دولة قطر وهو ما رفضته السعودية وطالبت بخروج تلك القاعدة من دولة قطر.
أستاذ بجامعة أم القرى بمكة