طارق فقيه

العدسة تتحدث

منذ أن اقتنينا هاتفًا محمولًا متصلًا بشبكة الإنترنت ومثبتًا به كاميرا، وأصبح كل واحد منا يهتم بالتصوير أكثر من المصورين المحترفين الذين يمارسونه كوظيفة، وغدا كل منا يصور من عدسة جواله ما شاء ووقت ما شاء بدءًا من وسامته أو قبحه وطعامه وشرابه ومقتنياته وأطفاله وعيال الجيران، كما يصور حركة السير والحوادث المرورية والمطر والغيم والشمس والشجر والحجر وهلم جرا..

في الواقع لا أحد يجد الفرصة لمشاهدة معظم الصور والمقاطع التي قام بتصويرها؛ فضلًا عن أن يريها للآخرين المشغولين أصلًا بالتصوير. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن الحديث الأقوى في هذا الزمان هو حديث عدسة التصوير، وما تستطيع قوله الأشعة الضوئية المنعكسة يتجاوز ما تستطيع الكثير من الكلمات إيصاله، وانعكس حديث الصورة بشكل لافت على الحياة في جميع جوانبها.

ومما دفعني للكتابة عن تأثير الصورة وانعكاساتها على حياتنا هو مشاهدتي لعددٍ من الصور اللافتة التي تم تداولها بشكل واسع خلال الأسبوع الماضي، فاستوقفتني وأجبرتني على التأمل والتفكير في قوة الرسالة التي تقوم العدسة بإيصالها بكل اقتدار دون الحاجة لكثير من المفردات اللغوية والقدرات البلاغية. وهي بدون شك صور لمواقف إنسانية من الدرجة الأولى وهذا سر اهتمامي بها، وهي بعيدة كل البعد عن صور المشاهير المهوسين بالترزز في كل مكان والتقاط الصور لحياتهم وتحركاتهم عطال على بطال !

– الصورة الأولى: كانت لجندي من رجال الأمن العام في أحد شوارع مكة المكرمة يقدم حذاءه لامرأة مسنة من الحجاج أحرقت الشمس اللاهبة أقدامها، تأملوا معي كيف نجحت العدسة بمقطع قصير جدا في تجسيد رفعة أخلاق أبناء هذه البلاد ورقي تعاملهم وهم الذين نشأوا على: “إنما المؤمنون أخوة “، وتربوا على: “ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره”، ويعون تماما معنى قول الله سبحانه وتعالى: “وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” ويطبقون في حياتهم بصورة عملية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة”.

هذا ما تحدثت به العدسة من خلال هذه الصورة، وقد أبلغت -ما أروعها- في حديثها. وإن نجحت العدسة في التقاط هذه الصورة الجميلة لما قام به هذا الجندي من عمل إنساني يشكر، فما غاب عنها عندما كانت مغلقة صورٌ عظيمةٌ كثيرةٌ لا تقل إنسانية عن تلك الصورة، ولكن قدّر الله لأصحابها أن تكون مواقفهم( خبيئة لهم ) تنفعهم عند مولاهم في وقت لا ينفع فيه مال ولا بنون.

– الصورة الثانية: كانت لأخوين جمعتهم أرض مكة المكرمة المباركة في الحج أيضًا بعد فراق دام سبع سنوات بسبب الحرب والنزاعات السياسية التي تعيشها منطقتنا العربية للأسف، والصورة عبّرت عن الألم والاشتياق والحزن والفرح بفلاش واحد، لكن زاوية العدسة وانعكاس الضوء على هذا الموقف الإنساني كان يتجاوز التعبير اللفظي تمامًا وسادت فيه لغة العناق والأشواق والقبلات وما أرقها من لغة.
ونطقت العدسة من خلال الصورة بقول قيس بن الملوح:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما

يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

الصورة الناجحة لا تحتاج دائمًا لعدسة مصور محترف، لكنها تحتاج لإحساس إنسان مرهف تحركه القيم الإنسانية السامية، وتدفعه لاستخدام عدسته في التوقيت الصحيح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى