تبدو حركة الطواف عكس اتجاه عقارب الساعة ،فإذا كان الزمن يسير ممتدا نحو المستقبل المجهول ،فالطواف يسير نحو الماضي المعلوم .إلى أين؟ لماذا يسير في هذا الاتجاه ؟ إلى لحظة الخلق و التكوين ؟
بحسب التصوّر الذي طرحه علي عزت بيقوفتش في التفريق بين الثقافة و الحضارة يرى أن كلّ ثقافة تمثّل عودا إلى لحظة الدراما الإنسانية و هذا في نظري ما يعزّز معنى “ثقف” في المعجم العربي من الصقل و التهذيب ، أي صقل الحالة و إعادتها إلى ما كانت عليه، خلافا للحضارة التي تنطلق من الحاضر امتدادا في المستقبل عبر الأدوات من العصا إلى الريموت مثلا ، و هذا ينسجم مع حركة عقارب الساعة التي تلهث في حركة دائرية مغلقة ، عكس اتجاه حركة الطواف التي تعود إلى اللحظة الأولى صقلا و تهذيبا و تخففا من الأزياء الحضارية التي أثقلت كاهل الإنسان .
إن دائرية الزمن حتمية مهما حاولت الفلسفات المادية أن تكسر هذه الصيرورة لصالح الانفتاح الحر ، فظواهر الكون و الحياة تأبى ذلك و كلها تشير إلى الزمن الدائري ، غير أن ثمة فرقا بين الزمن الثقافي و الزمن الحضاري ، فاستنادا إلى فكرة أن الثقافة عودة و الحضارة امتداد ، و هو ما يبدو لي مقنعا جدا ، تمثّل حركة الطواف ذروة الزمن الثقافي الذي يتم من خلاله صقل الروح الإنسانية عبر حركة ارتداد لا حركة امتداد ، حركة يرجع فيها الإنسان إلى لحظة خلقه عبر ذاكرة البدء ، و إلى ربّه عبر شعائر الحج ، و في الحج تحيل كل الشعائر التعبدية إلى ما سلف من اقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام و من عودة إلى أوّل بيتٍ وضع للناس ، و عند الطواف تحديدا يبدأ فعل العودة من الحجر الأسود ثم حين يشرع الحاج أو الطائف في طوافه يرجع القهقرى باتجاه ماضيه كي يعود إلى حالة البراءة الأولى :”من حجّ فلم يرفث و لم يفسق رجع كيومَ ولدته أمّه” ، فيما صح عنه عليه الصلاة و السلام ، و هو رجوع يتسق مع حركة الطواف التي تأتي عكس اتجاه حركة الساعة العلامة الحضارية للزمن الآلي ، أو ما يمكن وصفه على الصحيح بالزمن الحضاري ، الزمن الذي يسير بلا توقّف و لا التفات إلى الماضي حتى ينعطف ضرورةً و قهرًا عبر سنن الكون و الطبيعة ثم يتلاشى في الفراغ كإيقاع تكّات الساعة التي تلهث بلا معنى .
على هذا النحو ووفقا لهذا التصوّر المائز بين الثقافة و الحضارة ، بين الإنسان و الآلة ، تبدو حركة الطواف سيرا في طريق العودة ، لأنّها حركة الإنسان داخل الزمن و ليست حركة الآلة ، و هي حركة مبصرة لا عمياء ، تدرك أن الإنسان في طريق العودة إلى لحظة البدء الأولى ، لحظة الخلق ، و لهذا كل سير إلى الله هو في حقيقته لحظة تذكّر عميقة ينسحق فيها منطق الزمن الحضاري المتراكم في امتداده و ينبثق زمن الثقافة بمفهومها التربوي التهذيبي ، حيث يصقل الإنسان روحه متخلصا من كل عوالق و عوائق الحضارة الماديّة .
و تبدو فريضة الحج النموذج الثقافي الأمثل وفقا لهذا المنظور ، حيث يبدو الحج شروعا في طريق العودة و رحلة باتجاه الماضي العتيق ، أو كما يعبّر الأستاذ حسين بافقيه في كتابه “أفئدة من الناس” ، إذ يرى الحجّ في شعائره “حالة من حالات العبور ،يتخطّى بها الحاجّ حياة مضت ، و يستعيد فيها زمن الفطرة و الطبيعة المحض ،يرجع فيها إلى لحظة الميلاد” .
كان الحج مدداًثقافي للمبدعين ، ومصدر إلهام للأديب والمثقف والمبدع ،يأتي ليرفع من أسهمه في الخروج بمنتج رصين عابر للأزمنة يخلدبه في جدارية الزمن
كنت أتساءل لماذانلمس اليوم تراجعاً كبيراً في كمية الإنتتج الابداعي المرتبط بالحج؟! لماذا ترك المثقف الساحة رغم صراءها لصالح الاعلامي الذي نجح في تحويل الحج منتجات إعلامية
هذا المقال ضوء ثقافي رصين
قراءة تأملية واعية ووازنة تمنحنا بصيص أمل في قدرة المثقف على العودة للواجهة عبر مناسبة الحج التي تمد الغكر الانساني أجمع بالكثير من الإشراقات الملهمة
كم هو المشهد بحاجة لمثل من هذه الانبثاقات والخلاضات