ليس من شك في أن الحج مناسبة دينية عظمى ومؤتمر إسلامي كبير، تتضاءل فيه التباينات، وتذوب الفروقات لصالح مسطرة المساواة.
مايميزالحج أنه مشهد يعزز القيم الإنسانية والكونية جمعاء وإن كان في أصله مناسبة دينية، ومظاهرالحج تتميز بكونها ينبوع عذب يروي الكثير من جوانب حياتنا بمشاهد وقصص، ووقفات، وتأملات، وانبثاقات ملهمة صالحة للمجالات كافة.
ولكم كان الحج ولا زال مددًا لإبداعات ثقافية لاتنتهي، فقد استدنى قريحة الشعراء، وأسال حبر الكتاب وتدفقت معه مخيلة السرّاد من روح هذه المناسبة العظيمة، انبثقت قصائد خالدة مازالت ترددها الألسن شوقًا إلى مكة وإلى البيت العتيق،
وانداحت الأحرف وصفًا لأعمق وأدق المشاعر الجياشة، ولم تكن تلك المضامين وحدها هي ماتطرق إليه الشعراء فالبعض جنح بعيدًا مستحضرًا خيّالًا مارقًا يتمسح بالمعشوقة.
ولعل أكثرها جنوحًا ما ذهب إليه المجنون، حين ألحّ على المناسبة بفرض حبيبته طقسًا يكتمل به الحج مصدرًا الفتوى حين قال:
إذا الحجاج لم يقفوا بليلى
فلستُ أرى لحجّهمُ تمامًا
تمام الحجِ أن تقف المطايا
على ليلى وتقُرؤها السلاما
هذا النموذج، وإن كان الأغرب والمرفوض إلا أن الحالة تصلح أن تكون مدخلًا جيدًا لنقاش الأدبية التي تفرضها المناسبة وتعالقاتها مع الذاتي، والشخصي، وحدود الخيال الذي يمكن أن يبلغه المبدع.
في زمننا الحاضر لم نعد نقرأ أو نشهد مثل تلك الإبداعات التي كانت، ففي حين كانت تزداد أسهم المثقف في الحضور بحلول الحج حين تكون الرحلة ومشاهداتها والمحيط بها باعثًا ومحرضًا وشرارة، تثمر إبداعًا تجسد شعرًا خالدًا وكتبًا، تنز ثراءً وتقطر عذوبة وحكايات عابرة للأزمنة، بل ورسومات ولوحات فنية وأعمالاً غنائية مستمدة من قلب الحدث الكوني الكبير.
هذا التراجع في دور المثقف الفرد يفوّت على اللحظة الراهنة أدبيتها، فرغم الطفرات الكبيرة التي شهدها هذا الموسم الهام على مختلف الصعد، ورغم أن الواقع قادر على مد المثقف والأديب بالكثير من العناوين الملهمة والإشراقات التي تصلح للخلود في جدارية الزمن على يد المثقف القادر على استلهام مشهد عابر، والتقاط شاردة يصنع منها مادة أدبية تستحق.
الإعلامي بدا أكثر قدرة من المثقف على استغلال المساحات، فأفاد منها، وصنع من الحج ورمزيته، ومكانته، ومشاهده، وقصصه الكثير من المنتجات الإعلامية المميزة.
والمثقف الذي عرف عنه بصيرته الحادة وقدراته التي تجعله في مصاف المؤثر؛ كونه الأقدر على الاستنتاج والتأمل والانفعال بالحدث، وتطوير اللحظة بما يملكه من أدوات قادرة على صناعة المنتج الأدبي، من غير المنطقي أن تمر كل هذه المشاهد التي تتجدد على مدار اللحظة.
فتثير غريزة وحاسة الإعلامي فيصنع منها مادته المثيرة، المادة نفسها تمر على المثقف والأديب دون أن ينفعل بها، وهوالذي حين يسافر إلى الخارج يستثيره سرب طيور زرقاء ومنظر حيوان القندس، حين يكسر حبة جوز الهند بأسنانه، ويلهب شجنه سقوط ورقة صفراء تحت شباك غرفته، ويثير تأملاته مشهد جماعة ترقص رقصة محلية بأزياء غريبة؛ فتكون مرتكزًا لعمل أدبي كبير تؤسسه تلك اللحظات، في حين تمر أمامه عشرات المشاهد لملايين البشر القادمين من كل أصقاع الدنيا على اختلاف سحناتهم وطبائعهم، وفي مواقع عدة دون أن تنجح في أن تكون لحظة تؤسس لتساؤلات مستفزة وخيالات محلقة، تستمد فتنتها من روحانية اللحظة؛ لتكون نواة لأعمال أدبية كبرى تتفتق عنها المخيلة الأدبية شعرًا ونثرًا، مسرحية وغناءً، وإنشادًا ونتاجًا مذهلًا لحقول التشكيل والفنون والدراما والأفلام بمختلف أنواعها.
جميل جدا ابداع قلمك استاذ ناصر لايوصف…