مقولة جميلة لروبرت ليجتون (الزهرة التي تتبع الشمس تفعل ذلك حتى في اليوم المليء بالغيوم )…
المسافة التي تتشكل بين الحلم الذي يصوغه عقل الإنسان أو وجدانه وتحويل ذاك الحلم إلى واقع إنما هي مسافة ضوئية يظن قاطعها أن أفلاكاً قد مرت ومجرات قد عُبِرَت وخروج من مدارات إلى سواها وغياهب لامدى لها ولا حدود ، والحلم ماهو إلا بذرة قد تكون نتاج ريح ألقتها في وجدان أحدهم كالبذرة تلقى وتُدَس بين طبقات التربة يسقيها أحدهم بقليل من ماء أوتأتي ديمةٌ عابرة بقطرات مطر تنفد لها لتمنح للبذرة الحياة فقطرات المطر هنا كفكرة إيجابية محفزة من أحدهم ورشة الماء كتناول صاحب البذرة أو الفكرة لفكرته بطريقة تفاؤلية فيسقي اهتمامه بفكرته وتبدأ البذرة بالنمو والتمدد حتى تصبح جذراً متأصلاً في داخل الأرض وهنا تصبح الفكرة حلماً قد تأصل في نفس صاحبه وتجذّر وأصبح كياناً قوياً لكنه لازال مطموراً ومختبئاً بين طيات التراب أي في وجدان من زرعه ولم يخرج إلى سطح الأرض بعد أي أنه لم يبدأ بعد في دخول حيز التنفيذ.
إن بقيت عملية السقيا والري بذات الكفاءة شقت البذرة الأرض وخرجت إلى السطح وهنا يبدأ الإنسان بداية مرحلة اتخاذ الخطوات لتحيق الحلم وكثير من الناس يهدر وقتاً كثيراً في عملية المخاض هذه فتروح السنوات وتأتي الشهور وتظل الأفكار حبيسة تربتها لاتُروى ولاتُسقى فتموت الفكرة قبل أن تولد ويموت الحلم في مكان ميلاده ، وبعضهم يبذر ويسقي وينجز سريعاً فعملية الميلاد لديه بين الفكرة وبداية ترجمتها إلى واقع لاتأخذ سوى أيام وربما ساعات ، ويتحكم في طول هذه الفترة من قصرها الهممُ العالية والتطلع المتفائل نحو الأمل والتجديد .
الآن الفكرة تحت الشمس ، يبدأ صاحبها في وضع الخطط للتنفيذ ، أيّاً كان الحلم ومهما كان مجاله لابد من البدء في تحقيقه خطوة خطوة وبعض الأحلام والطموحات تحتاج مليار خطوة وبعضها لايحتاج سوى خطوتين ويصبح واقعاً ،وقد يظل ذوالخطوتين قابعاً كالأرنب اللعوب المغرور بسرعته يهدر الوقت بين كسل وتراخٍ بينما يسير ذو المليار خطوة بثبات نحو الهدف كسلحفاة بطيئة الحركة لكنها ثابتة الإرادة فتبدو كمسافة لانهائية إلا أنها تنتهي بنجاح ساحق فقط لنشحذ العزائم ولانمل المواصلة الدؤوبة .
تكبر النبتة وتنتصب ساقاً ينمو في كل يوم جزءاً رويداً رويداً ، عزيمة صاحب الأمل هي ماء الري، والسماد الذي يساند هو الصبروالمثابرة ،والعناية المبذولة هي حائط الصد والوقاية ضد كوارث الطقس وتقلبات الطبيعة ، فالإنسان معرض لكثير من المعوقات التي قد توقف حلمه عن النمو وكثير من الكبوات التي قد تسبب اليأس لأي جواد وقد تأتي ريحٌ فيها صرٌ فتقتلع النبتة من جذرها فحينها ماذا يصنع ؟
أحدهم قد ييأس ويخور ويبرك كجملٍ خارت قواه ولا تقوم بعدها له قائمة ،وأحدهم وهو المسلم الحق يعود فيكرر الزرع والحرث فيضع بذرة من جديد ويكرر كامل المشهد الجميل بتوكل من يعرف بأن الله موجود وأن الله أكبر بالفعل من كل عائق وأن الله قريب مجيب فور الدعاء ، ذلك الإحساس بمعية الله يجعل ذا الأمل يستقر قلبه وتهدأ روحه فيدعو باكياً ساجداً وقائماً وقاعداً حتى يتمتم لسانه بدعائه وهو نائم ، يريد أن يكمل حلمه وقد تأكله ساعات الانتظارتارة وتعصف به هواجس اليأس تارات ، ولكن اليقين وحده هو مايجعله يعود فيدعو ولا ييأس ، يدعو ليلاً ويسعى نهاراً والكلل صفة لايعرفها والملل لغة لايفهمها ، يبقى على هذا الكر والفرّ وهو يناضل ويحاول ، قد يتقدم أميالاً في عجل ويُسجن في محطة تعطيل برهة قد يخالها سنة ضوئية فيحزن ويظن بأنه لايقدر على عبورها إلا سفينة فضاء متقدمة أو آلة زمنٍ مبتكرة ، ومع ذلك باليقين والسعي يعمل الإنسان مالاتفعله الآلات العبقرية.
اثنان في غار مظلم داخل جبل مهيب ويخاطب صاحبه (لاتحزن إن الله معنا) هكذا يكون الغنى بمعية الله في أحلك الظروف ، لأن المعادلة بسيطة فالحال قد يتغير في طرفة عين (لاتدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) والشرط مقنن وهو (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) ، من أين إذن يأتي اليأس وكيف يتولد القنوط والله أكرم الأكرمين!
يرتفع الساق وتكبر الشجرة وتتعدد الأغصان وتتشابك وتبرز الثمار وتتفتح الزهور وتجنى الثماروتُؤْكل ،إنه الحلم وقد أصبح ثمرة تؤكل ، لو يئس الزارعون والفلاحون وتوانوا لما بدأوا زراعة شبر من الأرض ولكن الأمل يجعل الحياة أجمل ، فوالله في اللحظة التي تشعر فيها -بعد سباق من جهد ونصب ثم سباق آخر من دعاء وتوسل- بأن الأرض قد ضاقت عليك بما رحبت وضاقت عليك حتى نفسك بين جنبيك يأتيك الفرج كغيث منهمر على عطشك الشديد فتفيض معه دموعك ويبتل بها لسانك شاكراً ومهللاً ومكبراً ، إنه الفرج ، وأعظم فرحة قد يستشعرها الإنسان في حياته هي لحظة تحقيق حلم بعيد وأجمل امتنان هو شعور المؤمن نحو ربه في تلك اللحظة .
وهج:
رجوْتُكَ ربي ألا يصيبني يأسٌ..
تبقى الأمانيَ ظلِي والعزيمةُ شمسا ..
فيمدني الإعصارُ بقوةِ بأسِهِ ..
ويقودني الإيمانُ لو زماني عبَسَ
إن كان حلمُك كالجبالِ وعورةً ..
فاللهُ أكبرُ من صخرةٍ بها يبَسَا
مقال رائع و محفز.. فلكل شخص آمال و أحلام.. و أمامه مفترق طرق .. والذكي القوي هو من لا يستسلم و ييأس .. ولا من يركن لعالم التسويف فيرى حلمه يذوي امام ناظريه إلى ان يتلاشى و يصبح تمثال تذكاري.
سلمت يداك يا د. فاطمة