في العشرين من العمر كنت أشرئبُ نحو المستقبل ، أظنه بعيداً .. أراه في مجرةٍ أخرى .. كان ذلك البيت الهادئ والأب الرائع والأم البديعة .. حيث أدرس نهاراً وأنام ليلاً وألتهم صفحات الكتب والروايات التهاماً .. أطمح لإقامة معملٍ أخترع فيه مالذ وطاب من الإبداع الفيزيائي وأنتظر الجرائد لتعلن خبر فوزي كأول سعودية ببراءة اختراع في مجال عظيم .. الجرائد التي كنت أقرأها صفحة صفحة كل يوم بعد وجبة الغذاء وأتبادل الآراء مع والدي ونتناقش حول القضايا والمستجدات ..تعلمت حينها كيفية الاختلاف في الرأي وقبول الآخر وتعلمت قبلها بسنوات طويلة كنوزاً من اللغة العربية وفنونها حين عشت مع ماجدولين قصتها وبكيتُ مع قصص العبرات وتأملت في قصص النظرات وقرأتُ للشعراوي والطنطاوي وسبحتُ في البحر الذي قصده حافظ إبراهيم في رائعته :
أنا البحرُ في أحشائه الدرُ كامنٌ …فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
قرأت ليلاً وعصراً .. كان الحرف ونيسي والمعنى جليسي والبلاغة مؤنسي وعزيزي .. يظنونني نائمة بينما أقرأ على ضوء المصباح الصغير .. كانت القراءة عالمي الذي لاينتهي بحدود ولاأسوار له لهذا تصَعّد الحلم واستوطن في خلايا جلدي واختمرت الآمال في رأسي فتحولتُ إلى مخلوق حالم محلق .. قدماه على الأرض وهامته تعلو مرابع السحب والرباب ..نصفه واقعيٌ أرضي يتعلم ويعمل .. ونصفه فلكي من مدارات أخرى لكوكب أحلام اليقظة وشفافية زهر الخزامى مع غلالة ضوء القمر وتهافت لمعان النجم على صفحة بحر في منتصف الليل أوقبيل الفجر .. فتاةٌ هلاميةُ الرؤى فيما يخص القلب ونبضاته والوجدان وسكناته ..حكيمة القناعات فيما يخص الأرض ومافيها ..تسبق سنها تميزاً ولاتشبه ندائدها تقدماً ..
كنت أنظر للحياة وكأنها طويلة .. طويلة .. لازلت في العشرين .. وصرت أفكر من ضمن ما أفكر .. ترى كيف ستكون حياتي وأنا في الخمسين ؟ ربما قصصتُ شعري الطويل حينها .. وصرتُ أكثر هدوءاً وروية ووصلت إلى زهدٍ ليس بعده زهد فقد حققتُ جلَّ ما حلمت به ولاريب .. وربما بجانبي شريك العمر المجهول وقد كبرنا معاً وأبناءنا قد كبروا ونتناول أمورهم بروية ومحبة .
في ذاك التصور لم أحسب حساباً لفقدان والديّ ..كانا موجودان في خلفية المشهد كقمرين .. والعائلة مجتمعة والعددُ وافٍ والأمن مستتب .
واليوم على مشارف الخمسين أقف .. ليست ذكرى ميلادي ولكنه فجر عام جديد أيقظني فجأة على لغز العمر ومتاهة الأيام .. نعم انقضى ذلك العمر البعيد وانطوت المسافة التي كنت أحسبها ضوئية و .. دخلتُ الخمسين .. لست متألمة ولا مصدومة فأنا متصالحة مع ذاتي فيما يخص العمر ومروره وأؤمن منذ صغري أن العمر هو شعورك نحو الدنيا وكيفية تعاطيك معها وكفاءتك في التفاؤل بقادمها لا مجرد الرقم المدون في بطاقتك لاسيما وأن معطيات الشكل والجوهر تؤكد على نتيجة هذا التفائل وإزهار ثماره حتى في هذا العمر ..
جلستُ قبل قليل متأملةً و.. سألْتُني :
أنا: ها قد بلغتِ الخمسين!
أنا أيضاً: فإذن؟؟!!
أنا: كان تاريخٌ بعيد كنجمة في سماء ..
أنا أيضاً(مبتسمة): حتى النجوم تهوي وتقع ..
أنا:حزينة أنت؟؟
أنا أيضا:أبدا ..الحمدلله في أفضل حال
أنا:أراك وحدكِ ..أين الشريك والقمرين و..و..و ؟؟
أنا أيضاً: القمران غابا ..رحمهما الله .. والشريك تم إقصاؤه منذ زمن..حفظ الله الأقمار الباقية في سماء حياتي
أنا: اختلف الحلم عن الترجمة !
أنا أيضاً: لابأس ..هي الدنيا لاتدوم بحال ..
أنا: والآن ..ماذا لديكِ؟
أنا أيضاً: لدي من نعمة الله الكثير وربما حرمني ربي الكثير أيضاً لحكمة لا أدركها..
أنا: كيف تشعرين ؟ أما زلتِ تحلمين مستيقظة؟؟
أنا أيضاً( بضحكة طفولية) : لازلت..
أنا: وتظنين أن في الوقت متسع ؟
أنا أيضاً: الوقت ممتدٌ طالما النفَسُ يتردد ..
أنا : اصدقيني القول .. ألا تشعرين بقليل ألم على عمر مضى ولن يعود ؟
أنا أيضاً: بلى .. وتساورني الرغبة في أن أصرخ أحياناً بأني سٌرِقْت .. سًرِقَتْ مني أيام العمر وسنينه .. لكني أعود لرشدي شاكرة حامدة فالمؤمن لايحزن على مافات ولا يُغفل ماهو آت ..
أنا: وماذا الآن .. محطة الخمسين البعيدة قد أشرفت وسيتم تجاوزها ..بعدها أتفكرين في تصور آخر لمحطة بعيدة ؟
أنا أيضاً : لا توقعات لمحطات أخرى .. فلنعيش ونحلم ونعمل ونعبد الله ونتفاءل ونظل نزرع خيراً .. نضحك كأطفال حين الفرح.. ونذرف دموعاً كما يجب أن يكون الإنسان حين الحزن .. نشفق ونرحم .. نعطي ونمنح ..نحب ونصفح ..نطير شغفاً مع طائر النورس صباحًاً ونتذلل بين يدي الله في الوتر ليلاً ..
نسافر مع فيروز مع شعاع الشمس ونسهر مع الأحبة في ليل الإجازات ..
الخمسون ليست بوابة النهاية بل هي عامٌ جديد جميل .. تراه جميلاً إن كنت كذلك وتراه كئيباً إن كنت كذلك ..
أنا: ماشاءالله .. بورك فيك وفي التفائل
أنا أيضاً: سعدتُ بحوارنا .. ذبحتني حواراً مذ سكنّا معاً في هذا الكيان منذ خمسين عاماً .. مرحبا بك ..
هذا ليس فصاماً ياسادة ولا ازدواجاً .. بل صداقة حقيقية مع نفسك اعقدها وحادثها وسترى الفرق .
روعه بارك الله فيك واند في عمرك بصحه وسعاده في رضي الرحمن
رائع ياأم أهلة كروعتك ✍?