الشك واليقين، أيّهما يأتي أولاً؟ أهو اليقين، أم تراه الشك؟ وهل يوجد شكّ في اليقين؟ هذه التساؤلات وغيرها وأكثر منها تنبت في ذهنية كلّ من يتأمل ويفكر ومَنْ لا يُسلم عقله وقلبه طواعية إلى ما ورثه الناس وشرّعوا له بحجة “وجدنا آباءنا كذلك يفعلون”. 74 الشعراء.
وهي وسيلة كلّ باحث عن الحقيقة “، و”لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد” .37 ق
والحقيقة يقين وليس كلّ يقين حقيقة، إذ أنّ بعض ما يظنه الناس يقيناً هو في الواقع وَهْم، لأنهم لم يصلوا إليه بأنفسهم وإنما سيّدوه عليهم وأسكنوه ضمائرهم ولم تمحِّصه عقولهم وعاملوه كتركة مقدّسة لا يجوز المساس بها، وابتلعوه ولم يهضموه، وتمسّكوا به ودافعوا عنه جهلاً أو تعصباً، أو سعياً وراء مصلحة شخصية، نجد ذلك في العقائد الدينية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والادارية والسياسية وفي كلّ ما يتعلق بعيش الناس ويمسّ مصالحهم ونمط تفكيرهم، فهناك نصوص يدّعي بعضهم أنها دينية ولا يجوز الخروج عليها مع ما فيها من تقييد للحرية الفكرية وتثبيط للهمّة، لكن الذين أُلهموا الحِكمة واعتمدوا على عقولهم في الوصول إلى الحقيقة وآلوا على أنفسهم تنقيتها من الأوهام وكشف زيف تلك الادعاءات الباطلة نفذوا بكيانهم من التبعية الفكرية واتخذوا مكانهم بجانب الثريا يرسلون نورهم شعاعاً يهدي التائهين في فلوات الحيرة والتردد .
فهل يولد الإنسان ومعه اليقين فيما يعتقد أو يؤمن به، أم أنّه يرِثه؟ وإذا كان الأمر كذلك فلِم يسيطر الشكّ على البعض فيُطيّرهم ويُقلّبهم على أجنحة عواصفه التي لا ترحم؟
إنّ اليقين لم يكن لولا الشك الذي يؤرق صاحبه ويدفعه دفعاً في طريق لا يَعرِف أولّه من آخره، فإما ينتهي به إلى النور أو يلقي به في هاوية ليس لها قرار.
أمّا الشك النابع من نفس لا ترضى التقليد الأعمى، فهو مادة التطور وأيقونة الإنسان الذي تميّزه عن كلّ المخلوقات الدنيا والعليا، الأرضية والسماوية، فالتاريخ الإنساني لم يَذكر مصلحاً أو عالماً أو مفكّراً إلّا وقد اعتراه الشكّ فيما يعتقد النّاس ويتعصبون له، فكان هذا الشك هو الباعث على اقتحام شعاب الفكر لاستخراج الحقيقة من بين أنياب الجهل ليقدمها لهم ناصعة نقية، فهؤلاء الثُّلة اتخذوا الشكّ سبيلاً إلى اليقين لذا نراهم قدْ ولَجوا شعابه غير الآمنة واقتحموا متاهاته غير آبهين بما ستكون عليه النتائج، وأطلقوا العنان لخيالاتهم متحصنين بالحكمة والمنطق فأضنتهم عقولهم وعاشوا كالغرباء بالرغم من وجودهم في أوطانهم وبين بني جلدتهم لأنّهم سلكوا طرقاً غير الطرق القديمة، فذوا البصيرة والحكمة يقفون عند أولى عتباتها حائرين تراودهم: كيف ولِم ومتى ومَن ولماذا وماذا لو، وأخرى كثيرة لا يعرفها إلا من حارت قدماه في أول الطريق ويصمدون أمام الشتائم، ويُلصق بهم أشنع التهم، حتى أنّ بعضهم نُفي وتُبرئ منه بتهمة الشذوذ العقلي أو الجنون ثم ما يلبث هذا الشخص(المُشكّك) أن يقود مجتمعاً بأكمله وربما أمة بكاملها!
ولنضرب مثالاً بالأنبياء عليهم السلام، فقد عاشوا في مجتمعاتهم كجزء من نسيجه ولكن ما ميزهم أنهم كانوا متحررين من إملاءاته وموروثاته الفكرية والاجتماعية ولم يُقرّوه على خُلق أو معتقد إلا بعد تمحيصه، فما وافق العقل والمنطق أخذوا به وما كان غير ذلك خالفوه ونبذوه وراء ظهورهم وحاربوه، فكل نبيّ لابد من أن يعبر هذه البوتقة الفكرية فيُهرع إلى الفلوات وقمم الجبال باحثاً عن اليقين الذي يولد بعدئذ من رحم الشكّ.
عندما ينتاب الإنسان الشك -أي إنسان- وفي أي طريق عليه ألّا يتجاهله متوهماً بأنّه من الشيطان فليس من منهج الشيطان أن يعطي الإنسان أداة تُبلّغه اليقين الذي ينشُده ليرتاح ويهنأ ضميره، لذا فمن الحصافة أن يُستثمر الشكّ كقوة محرّضة على التفكير الخلّاق لبلوغ اليقين التام.
” السلوك الوحيد المناسب للإنسان ليس اليقين المتغطرس بل الشك.. الشك المتواضع”
بيل مار
بارك الله بكم
شكرا أم عبد الملك ولك تحيتي
مقال اكثر من رائع ????
من يواجه معتقدات المجتمعات المورثة الخاطئة والتي أصبحت يقينا بنية الخوف من الله سبحانه وابتغاء رضوانه فإنه يمشي في حقل بدايته شوك ونهايته وروود وذلك اذا بتغى رضوان الله فالله يضيع ولا يرد من يقبل اليه
اللهم إني أسألك رضاك والجنة لي ولوالدي ولذريتي وأحبابي وكل من يؤول إلي والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات