(تحية شغف في ذكرى اليوم الوطني لموطني المملكة العربية السعودية )
وطن – كلمة من ثلاثة حروف ..قصيرة في تكوينها ضخمة لانهائية في معناها ، احتار المفكرون في توصيفها وتسابق المتشدقون في بيان معانيها وظل كلٌ من البشريضع للوطن تعريفاً إجرائياً يخصه وحده ويترجم قناعته تجاهه .
والكلمة التي تجعل آلاف بل ملايين البشريقدحون زناد فكرهم ويجتهدون في التوصيف لايصح أن تظل في قائمة الكلمات بل تتعدى كل الحواجز لتصبح “موسوعة ” ، قاموس من المعاني ينبثق من زوايا الثلاثة حروف بلا نضب ولاجدب .
فهذا القصيبي الشاعر والمفكر والسياسي يعتبر الوطن هو”رغيف الخبز والسقف والشعور بالانتماء والدفء والإحساس بالكرامة “ ، وقاسم أمين يقرر بأن “الوطنية تعمل ولاتتكلم” وشكيب أرسلان يفرق بين الوطني والسياسي بأن “الوطني يفكر بالأجيال القادمة أما السياسي فيفكر بالانتخابات القادمة” وهناك مثل يوغوسلافي يقول “حراثة الأرض في الوطن خير من عد النقود في الخارج”.
مقتطفات من أقوال لجهات مختلفة ثقافياً ودينياً وعرقياً وتاريخياً وقد يصيب بعضها عين الحقيقة وقد يخيب وفي هذا المضمار لي وجهة نظر خاصة ألخصها بأن الوطن هو “كل ما يحيط بك وكل مايشكل شخصيتك وكل ما ينتج عنك وكل مخزونك الثقافي والحضاري وكل مايسير حياتك من قوانين وأنظمة وكل ما يمنحك إياه المكان والزمان والمجتمع والتاريخ والبشر وتبادلياً كل ماتمنحه أنت بالمقابل”.
الوطن كلمة جامعة لألف سطرومئات الروايات , من يلخصها في سطر واحد يقلص أهميتها ومن يقصرها على أمر واحد يغمط حقها ، الوطن أول ما يشمل يشملك أنت عزيزي المواطن ، كإنسان مسلم عربي هذا على المستوى العِرقي ويشمل تاريخك وأحداثاً مرت شكلت وجدان أسلافك فأنت نتاج نهائي لقالب تم عبر العصور ملأ فراغاته وتحديد سماته كقطعة أرض صغيرة تؤثر فيها كل العوامل المحيطة من تجوية وتعرية و و و .. حتى تصل إلى شكلها وكيانها الحالي .
الوطن أنت بملامحك وتاريخك وصفاتك وموروثاتك وعاداتك وتقاليدك وقناعاتك وأساليبك، الوطن هو مركب كيميائي عظيم يتكون من عناصر متداخلة وكل عنصر له جزيئات والجزيئات تتكون من ذرات والذرة تحوي النواة وماحولها ، إنه أنت ،
تلك الذرة المتناهية الصغر التي تبدو صغيرة لاقيمة لها إلا أنها أصل المادة وأساس الحياة ، الذرة تكون الجزيء فأنت جزء من عائلة أو أسرة أو قبيلة ثم جزيئات أخرى تشكل المجتمع والمدينة ، تشكل البشر والمكان الذي يستوطنونه والزمن الذي يعيشون فيه، ربما ماهية الزمن الغامضة والتي لم يحل شفرتها الإنسان إلى الآن هي تلك الروابط بين الجزيئات ، يشترك معها في تشكيل الروابط جميع المعاني القيمية والإجتماعية والنفسية والخبرات التراكمية والقدرات الشاملة التي يمتلكها هؤلاء البشر في النسيج الاجتماعي الموصوف ، وهذا المركب يتكون من عناصر بعضها يشمل المجتمع بماهيته وبعضها يشمل العقد النظامي الحاكم لهذه العناصر فيؤطر القوانين ويضع الحدود ويقرر الكيفيات وينظم عمل الجزيئات والذرات والعناصر ليضمن استمرارها ويؤمن سلامتها ودوامها فهؤلاء هم ولاة الأمر والحكومة التي تسير شئون البلاد وتعلو بتحقيق احتياجات وطموحات الوطن الذي يأخذ هنا إسماً آخر هو الدولة ، وتبقى العناصر الصغيرة التي تكون أجمل مكونات المركب ، فالتراب الذي تسير عليه بذراته جزء من الوطن ، السماء التي تظلك جزء من الوطن ، الهواء الذي يأتيك عبقه بشكل مختلف داخل وطنك عن عبقه في غيره –ذاك النسيم جزء من وطنك ، ذكرياتك الجميلة وأحبتك الذين طواهم التراب والوجوه المألوفة التي لاتصفعك بشعور الغربة والتباعد –جزء من وطنك ، اللغة الجميلة التي ورثتها جينات دمك وأشبعتها أنت تناولاً حكياً وكتابةً بفصحاها وعاميتها جزء بديع من وطنيتك ، الأماكن التي حفظتها عن ظهر قلب ذهاباً وإياباً وزرتها ومشيتها وقطعت مسافاتها ، وموج البحر الذي تحب وتصاحب ورأس الجبل الذي تصعد إليه وتقارب والليالي المقمرة في صيفٍ دافيء والبرد المنعش في فصل الشتاء الغامض ، وضحكات الصبية في الأزقة والمنعطفات ويوم الجمعة يأسرنا بالخطبة والتقرب إلى الله يتلوه دخول الأب برغيف الخبز الساخن الشهي وكعكة حلوى بسيطة وليالي رمضان الرائعة والتسابق لإداء التراويح والعيد ببهجته وفطور العائلة ونشوته ومقهى صغير في طرف القرية تفوح منه رائحة الشاي على الجمر وحكايات الجدات ونشيد يعلو بكلمات الوطن في صباح المدارس والساحات .
كل ذلك … وطن .. ملكٌ يحكمنا بعدلٍ واتزان ووليُ عهدٍ يستشرف مستقبلاً مشرقاً يضع له الرؤى والخطط ، جيشٌ يحمي الحدود وعينٌ لاتنام لخدمة الحج والأماكن المقدسة وشباب كالزهر يتعلمون بجد واجتهاد في أصقاع الدنيا ونساء تعمل بكدٍ وبراعة وجنود يحملون الطفل ويعينون الكبير في المشاعر والمقدسات .
يا لله .. الوطن أكبر من أن نحكي عنه فنلخص أو نكتب فيه فنحصر ، الوطن بكل عناصره المذكورة يعطيك المكان والزمان والأمان والمعطيات لتعيش وتنمو وتكبر وتستلم الراية وتسلمها من بعدك ، الوطن يهبك الكرامة والشعور بالعزة فإن فقدتها أو أضعتها فابحث عنها في ثناياك فلربما الإشكال فيك لا في وطنك ، الوطن سكنُك وطمأنينتك حتى وإن كان في وطننا مايجب تطويره أو تعديله أو تغييره ،فكل أوطان الدنيا فيها نقائص وقصور والبشر هم من يعملون لتحسين أوطانهم وهذه مسؤولية الجميع ليس الحاكم والحكومة فقط بل كل من يسكن هذه الأرض ويستظل بسمائها .
والشعور بالانتماء شعور إنساني حيوي يحتاجه كل بني آدم سواء للدين أو للأسرة أو للمكان أو للزمان أو التاريخ أي باختصار الانتماء للوطن لأن الوطن كما أسلفنا يتضمن كل ذلك والانتماء يهب الإنسان سعادة وعزة وإذا فكر كل شاب بالهجرة والفرار والبعد فمن سيبني هذا الكيان ومن سيعلو بهذا البنيان .
الانتماء للوطن يعزز الانتماء للدين خاصة وأن وطننا ليس كمثله وطن فإن كانت باقي الشعوب لديها آثار تاريخية أو حضارية فنحن لدينا أعظم مهوى للأفئدة في كوكب الأرض وهي الكعبة وأروع مدينة تحوي قبر سيد البشر هي المدينة ، لدينا ما يقطع شغاف قلوب مليار مسلم ، وهذا أدعى أن نحب هذا المكان ونستميت في حب هذا الوطن لأن هذا الحب يقودنا لله ولعبادته وهي الغاية من خلق الإنسان .
ما الحياةُ إلا فكرة وإنجاز .. والفكرة تدور حول محبة الله والإنجاز لابد أن يدور حول كيفية تحقيق المعادلة بتحقيق التوازن بين العيش برخاء في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة والصلاح في تناول المواطنة يحقق تلك المعادلة بنجاح .. هيا معي فلنبني ونعمل ..نحب أنفسنا وبلادنا ووطننا وحينها نصل إلى ترجمة الحلم إلى واقعزاهر جميل ..
وهج:
رؤية 2030 بذرة وضعت في طيات الأرض نسقيها تعلماً .. نرويها تقدماً .. نرعاها كجذر قبل أن تشق الأرض وتظهروننميها ساقاً يعلو رويداً ويكبر .. وفي عام 30 نجني الثمار ونحصد ونأكل منها ونسعد .. هكذا ينبغي أن تراعى الرؤى لكي تتحول إلى واقعٍ ملموسٍ لمن عاين ورأى .
د. فاطمة عبدالله عاشور
أستاذ مساعد بجامعة الملك عبد العزيز
أستاذة التربية والثقافة الإسلامية