لمْ يشأْ طارق زيدان أن يُعِدَّ بحثًا عنْ جَدِّه محمَّد حسين زيدان، فذلك شأن الباحثين والدَّارسين، ولهم وحدَهم أن يقولوا فيه ما يحتمله العِلْم والبحث والنَّقْد، ولكنَّه اختار كِتاب جَدِّه ذكريات العُهُود الثَّلاثة، فقرأه مرَّاتٍ ومَرَّاتٍ، فكان كِتابه هذا الَّذي بين أيدينا. وكأنَّما أراد طارقٌ أن يَتَخَيَّرَ مِنْ تراث جَدِّه “زيدان الكبير” ما كان أدنَى إلى نَفْسه ورُوحه ووِجدانه، فالكِتاب معدودٌ في أدب “التَّرجمة الشَّخصيَّة”، وإنْ شِئْتَ “السِّيرة الذَّاتيَّة”، ورُبَّما تَحَدَّرَ شيْءٌ ليس بيسيرٍ مِنْ رُوح الجَدِّ إلى رُوح الحفيد، فإذا به يقرأ تلك الذِّكريات ويُخْرِج لنا مِنْ وقوفه عليها كِتابًا، بِوُسْعِنا أنْ نَعْتَدَّه “رواية”، كما أراد طارق، وبِوُسْعِنا أن نرى فيه غير ذلك مِنْ صُنوف التَّأليف وأنواعه، لكنَّنا، في كُلّ أحوالنا، نَظْهَر على سِيرة “زيدان الكبير” بِخَطِّ حفيده “زيدان الصَّغير”، وفيها ألوان مِنْ البَسْط والتَّفصيل والتَّخييل، أراد مِنْ ورائها الحفيد أن يُمَثِّل لنا تاريخًا، لعلَّه يراه جُزْءًا مِنْ تاريخ أُسْرته، ونراه نحن – قُرَّاء زيدان الكبير – أَثَرًا مِنْ نَفْسه، ورُبَّما عَدَدْناهُ جُزْءًا مِنْ تاريخ المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، أو “الكِيَان الكبير”، متى ما استعرْنا عِبَارته.
وهذا الضَّرْب مِنَ التَّأليف، الَّذي يُؤَلِّف فيه الابْنُ عن الأبِ، أو الحفيد عن الجَدِّ، يَسْتهوي القارئَ والباحثَ والأديبَ والنَّاقدَ، ذلك أنَّهم يقرأون جيلين مختلِفَيْن، يَجْمَع بينهما النَّسَب والعَصَبِيَّة والاسم، وعساهُمْ يَحْسَبون أنَّ هذا الضَّرْب مِنَ الكِتابة الأُسْرِيَّة حَرِيٌّ به أن يَجْلُوَ غامضًا، أوْ يُصَحِّحَ وَهْمًا، أوْ يُتِمَّ خَبَرًا. وفيه، مع ذلك، شيْءٌ حبيب؛ أنَّنا نقرأ في كتاب الابن أو الحفيد تلك العواطف المشبوبة وهي تأبَى إلَّا أنْ تتسلَّط على الكاتب، ويتسرَّب شيْء مِنْها إلى عباراته وجُمَلِه، وكأنَّما أراد أحدهما أوْ كِلاهُما الذَّوْد عنْ هذا القريب الحبيب، وتَسْويغ هذا الفِعْل أوْ ذاك مِمَّا اضطربَتْ فيه حياته وتَقَلَّبَتْ، ولا شَكَّ أنَّنا سنظفر بِقَدْرٍ كبيرٍ مِنَ الدَّهَش والغرابة، متى ما وَقَعْنا على هذا الضَّرْب مِنَ التَّأليف، وعسى أن يَتَسَرَّبَ إلينا شُعُور يُبايِن شُعورنا، لوْ قَرَأْنا السِّيرة نَفْسها مُحَرَّرةً بقلمِ باحثٍ أوْ أديبٍ لا تَجْمعه بالمكتوب عنه آصرةٌ مِنْ نَسَبٍ أوْ صِلَةٌ مِنْ عَصَبِيَّة.
ولعلَّكَ أحسسْتَ شيئًا مِنْ ذلك في غير كِتابٍ اختصَّ به الابنُ سِيرة أبيه، وعلى كثرة ما أُلِّفَ في أمير الشُّعراء أحمد شوقيّ، وعلى دَوَرَان المؤرِّخين والنُّقَّاد في شِعْر شوقيّ وأدبه وسِيرته= فإنَّه لا يزال لِكِتاب أبي، شوقيّ لابنه حسين بن أحمد شوقيّ، مِنَ اللَّذَّة والمَتاع والدَّهَش، فوق ما تَجِده في كُتُب النَّقَدَة والباحثين، مهما أحسنوا، ومهما أجادُوا وأتقنوا، ويَدْهَمُكَ الشُّعُورُ نَفْسُه وأنتَ تقرأ كِتاب حسين بن أحمد أمين، ذلك الطَّريف الرَّائع في بيت أحمد أمين، وتَقِف مِنْ حياة صاحب فَجْر الإسلام وضُحَاهُ وظُهْره، فوق ما تَرْجُوه مِنَ الكاتبين، بلْ فوق ما أَدَّاه إلينا أحمد أمين نَفْسُهُ في سِيرته البديعة الرَّائعة حياتي، وقُلْ ذلك في ما أَنْشَأَتْهُ مُنَى بنت حسين مؤنس في أبيها المؤرِّخ العلَّامة الجليل في بيت حسين مؤنس، فَظَهَرْنا على سِيرة مؤرِّخ الأندلس العظيم في بيته، وفي كَنَف أُسْرَته، وأتاح لنا كِتاب الابنة أن نَعْرِف الأبَ العطُوف الحَنُون، بَعْدَ أنْ عَرَفْناه، مِنْ قَبْلُ، مؤرِّخًا جليلًا، وباحثًا كبيرًا.
في كِتاب طارق فريد محمَّد حسين زيدان شيْءٌ مِنْ ذلك، وإنْ خالَفَ عنْ تلك الكُتُب بعض المخالَفة؛ فيه يكتب الحفيد عن الجَدِّ كِتابةً جديدةً قديمةً؛ جديدةً لأنَّه أنشأَ كلامًا على كلام، أراد مِنْ ورائه أن يَتَّخِذَ مِنْ جَدِّه الأديب الكبير القدوة والمَثَل، دُون أنْ يَنْطِق بِتَيْنِكَ اللَّفظتَيْن، وأن يعود إلى ذلك الماضي البعيد، فيُوْسِع سِيرة جَدِّه في العُهُود الثَّلاثة الَّتي عاشها “العثمانيّ والهاشميّ والسُّعُوديّ”، فإذا بنا إزاء “بَطَلٍ”، صُنِعَ على عَيْن تلك الحِقَب كُلِّها، وكأنَّما كان محمَّد حسين زيدان في ذكريات العُهُود الثَّلاثة، وفي كتاب حفيده طارق = مُعَبِّرًا عنْ رُوح المدينة المنوَّرة الَّتي عَرَفَها كأتَمِّ ما تكون المعرفة، يَجْمَع ساكنيها المسجدُ النَّبويُّ الشَّريفُ، مهما تَقَلَّبُوا في ألوان مِنَ المَعاش، ومهما تَبايَنُوا في المَنْبَت والأصل والفَصْل، وأنتَ تُدْرِكُ شيئًا مِنْ هذه “العبقريَّة” متى قَرَأْتَ الفُصُول الأُولى مِنْ ذكريات العُهُود الثَّلاثة، وتَظْهَر عليها كُلَّما مَضَيْتَ في كِتاب طارق الحفيد، وستخرُج مِنَ كِلا الكِتابَيْن، وقدْ أعجبكَ في سِيرة زيدان الأوَّل أنَّه اجتمع فيه البدويُّ والحَضَرِيُّ والقَرَوِيُّ، بلْ إنَّكَ لَتَرَى كيف دَفَعَ بكلماته المُجَنَّحة عنْ البَدْوِ والبادية، دِفاعَه عنْ نَفْسه، فليس أَدْنَى إلى شخصيَّته وتكوينه مِنْ أن يَنْشَأَ نشأةً بدويَّةً خالِصةً، في بيت الشَّعْر، وكان يحلُو له في الكِتاب والمقال والمحاضرة أن يَصْدع بهذه العِبارة الحبيبة: “أنا بَدَويٌّ.. أُمِّي بدويَّةٌ، ووُلِدْتُ ونَشَأْتُ في بيت شَعْر”، فصار لنا مِنْ سِيرته، ومِمَّا أَدَّاه إلينا طارق الحفيد، في كِتابه هذا، المَثَلُ والقدوةُ، وأحسب أنَّه لوْ لمْ نَظْفَرْ مِنْ كِتاب “زيدان الثَّاني” إلَّا بهذه الخَلَّة الكريمة لَكَفانا ذلك كَسْبًا ومَنْقَبةً.
قال طارق زيدان: إنَّ كِتابه هذا “رواية”، ورُبَّما يوافقه القارئ على ما أراده أوْ يخالفه، وحَسْبُه أنَّه أنشأَ لنا نَصًّا تَخَيَّرَ مادَّته مِنْ كِتاب الجَدّ، ثُمَّ أدار قلمه وأجرَى خَيَاله فيما انتخبَ وتَخَيَّرَ، حتَّى إذا تَمَّ له ذلك، نراه وقدْ أَشْبَعَ ما قَرَأَ ثُمَّ ما كَتَبَ، بَسْطًا وتَحليلًا، وكأنَّما ابتغى طارقٌ، مِنْ وراء ذلك، أمرين: أن يَصُوغ “سِيرة بَطَل”، وأن يَصْنَع على كِتاب جَدِّه “شَرْحًا”، أوْ “حاشِيَةً”، كما كان يَصْنع الخالِفُون مَعَ السَّالِفِين.
ورُبَّما وَجَدْتَ في مُصَطَلَحَيْ “شَرْح”، و”حاشية” شيئًا مِنْ طَرَافة، فَهُما يُذْكرانِكَ بألوانٍ خَلَتْ مِنَ الكِتابة والتَّأليف. يَضَع الشَّيخُ مَتْنًا أوْ كِتابًا، ثُمَّ إذا بِنا نقرأ على أحدهما أوْ كِلَيْهِما شَرْحًا أوْ شُرُوحًا، وما هِيَ إلَّا قليلٌ حتَّى نقرأ “حاشيةً”، و”تَقريرًا”، أوْ ما شاء أولئك القوم مِنْ ألوان الكِتابة والتَّأليف.
فإذا وافقْتَ طارقًا على أنِ اصطنعَ لكِتابه هذا مصطلح “رواية”، فذلك وما تريد، وإنْ رأيْتَهُ – كما رأيْتُهُ أنا – ضَرْبًا مِنَ التَّأليف هو أدنَى إلى “الشَّرْح” أو “الحاشية”، فعسانا لمْ نُسْرِفْ في التَّأويل، وما كُتُبُنا، اليومَ، إلَّا صُنُوفٌ مِنَ “الشُّرُوح” و”الحَوَاشِي”، مهما اصطنعْنا لها مِنَ التَسْمِيَات، ومهما غَلَوْنا في صَوْغ العنوانات، ولعلَّ طارقًا رأى في ذكريات العُهُود الثَّلاثة اختصارًا فأتَمَّه، أوْ غامِضًا ففَسَّرَه، أوْ عويصًا فَشَرَحَه، وصار لنا مِنْ كُلِّ ذلك كِتابٌ، نقرأُ فيه كلامًا على كلام؛ كلامَ الحفيد على كلام الجَدّ، على تَبَدُّل الأزمنة واختلاف الأمكنة، وكأنَّما أراد طارقٌ الحفيد أن يَعُود، ثانيَةً، فيُذْكِرُنا بالقِيَم الَّتي ناضَلَ دُونَها جَدُّه محمَّد حسين زيدان وثَبَتَ عليها، تلك القِيَم الَّتي رآها صالحةً لزمانه وزماننا، وجديرةً بأن يتحلَّى بها العربيُّ والأعجميُّ، والحَضَرِيُّ والبَدَوِيُّ والقَرَوِيُّ.
رَحِمَ اللهُ زَيْدَانَ الجَدّ، وبارَكَ لنا في زيدانَ الحفيد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*تقديم لكتاب “في بيت محمَّد حسين زيدان”، لحفيده طارق زيدان الذي سوف يصدر قريبًا.