وضع بيان النيابة العامة الأمور في نصابها، وقدّم للمجتمع المحلي والدولي نتائج التحقيقات في جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي -رحمه الله- في وقت وجيز، ووضح البيان أوجه الاتهام بحق الموقوفين كل حسب مسؤوليته في الجريمة، وهم أحد عشر شخصًا من ضمن مجموعة الأشخاص الموقوفين على ذمة الجريمة، ومن ثم إقامة الدعوى الجزائية بحقهم، وإحالة أوراقهم للمحكمة المختصة للنظر فيها بالوجه الشرعي، مع استمرار التحقيق والاستجواب مع بقية الموقوفين.
تتمتع النيابة في المملكة العربية السعودية بولاية عامة بالتحقيق في الجرائم والادعاء أمام الجهات القضائية، وباستقلاليتها التامة عن بقية السلطات في الدولة، بما يكفل لها مباشرة أعمالها ومسؤولياتها بكل حياد، ودون تأثير من أي جهةٍ كانت، وإعمالًا لمبدأ الفصل بين السلطات؛ مما يدفع عنها عدم تدخل أي سلطة في أعمالها بما فيها السلطة القضائية، حتى وإن كانت جزءًا منها.
في قضية “خاشقجي” أخذت العدالة حقها من الجهد المبذول، حيث عملت النيابة العامة على إخضاع كل من له صلة بالجريمة للتحقيق والاستجواب، وبحثت بجدية في كافة الوقائع المطروحة أمامها من جميع نواحيها، إلا أن هناك جهات تركية سعت للاستحواذ على صوت الرأي العام الدولي وكسب تعاطفه، عندما أعلنت عن حوزتها تسجيلات صوتية للحوار الذي دار بين مجموعة التفاوض داخل القنصلية السعودية أثناء وقوع الجريمة، كما أنها سعت إلى تعطيل مجريات التحقيق الذي تجريه النيابة العامة السعودية، وذلك عندما لم تستجب لطلب المملكة المتكرر بتسليم ما بيدها من أدلة صوتية تلوح بها في كل مناسبة على مرأى ومسمع من الرأي العام الدولي؛ لتظل هذه الأدلة حبيسة السلطات التركية حتى وقت صدور بيان النيابة العامة؛ ظنًا منها أنها ستفلح في ثني المملكة عن عزمها في إنهاء أعمال التحقيق، وتقديم المتورطين من المتهمين للمحاكمة في وقت قياسي.
يأتي إلحاح النيابة العامة بمطالبة السلطات التركية تسليم الأدلة المدعى بها في سبيل الوصول إلى كافة الأطراف المساهمة في ارتكاب الجريمة، ونسبتها إلى فاعليها، وفق أحكام النظام الواجب التطبيق في المملكة، وهي إذ تطلب النيابة ذلك فإنها تحرص كل الحرص كيلا يفلت مجرم من العقاب، ولا يؤخذ بريء بجريرة غيره، وهذا أصل راسخ في قاعدة الحساب والجزاء التي تمثل قمة العدل ومنتهاه أن الله يجازي العباد بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ولا يحمل أحدًا وزر غيره قال تعالى: (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى…) الآية- الإسراء:15.
إن من أصول المحاكمات الجزائية وفق أنظمة المملكة أن الأصل في الجريمة، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسؤول عنها، وهي أيضًا عقوبة يجب أن تتوازن “وطأتها” مع طبيعة الجريمة، بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن “شخصية العقوبة”، “وتناسبها مع الجريمة “، مرتبطتان بمن يعد نظامًا “مسئولًا عن ارتكابها”، ومن ثم تفترض شخصية العقوبة – التي كفلها النظام الأساسي للحكم في المملكة بنص المادة الثامنة والثلاثين “شخصية المسؤولية الجنائية”، وبما يؤكد تلازمهما؛ ذلك أن الشخص لا يكون مسئولًا عن الجريمة، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلًا لها أو شريكًا فيها.
وعليه فإن كل حكم بالإدانة يقتضي بالضرورة بيان الحادثة المستوجبة للعقوبة بيانًا تتحقق به أركان العقوبة، والظروف التي وقعت فيها، والأدلة التي استخلصتها منها المحكمة بالإدانة، حتى يتضح وجه استدلالها بها، وسلامة مأخذها، وهذا هو الذي سيتحقق -بإذن الله-، ومما هو معلوم بالضرورة أن مجرد تلويح السلطات التركية بالأدلة المزعومة لا تكفي في إصدار الأحكام بالإدانة من عدمها.
دكتوراه في الشريعة والقانون