المقالات

للحب قراءة أخرى !

أهي المصادفة وحدها أم التخطيط وجرعاتٌ عاليةٌ من القدَر التي احتضنتْ قلوبَ المُحبّين مع وَسْم الشتاء وعبق المطر؛ ليكون ميلادًا لائقًا ببذخِ الحب وأشواق المُحبين .. مولودًا متفردًا بالحضور متباهيًا بالاختلاف على عتباتٍ تتّقد بالضوء٬ وتشعُّ بالدفء لمَنْ اتّخذَ القراءةَ مَسْكنًا للقلبِ وملاذًا للفكر ؟!

إصدارٌ جديدٌ للكاتب المُتألّق حسن شعيب بعد كتابه “مكة التي في خاطري” ومن قبله “النغري المكي”؛ ليتوّجَ بهِ تجربته مع القراءة في نصوصٍ تتماهى عن قيُودِ المقال واستطرادات السّيَر في رحلةٍ يكتنِفُها الأدبُ ويسُوقها الخيالُ .. قدّمَ لهُ بقوله: “قراءةٌ تجتمعُ فيها الكلماتُ والحروفُ على حافةِ الجنونِ، وتتداعى فيها الأفكارُ بشكلٍ جريءٍ غيرِ مألوفٍ، قراءةٌ متمرّدةٌ  خارجَ التغطيةِ المُتعلقةِ بأستارِ المُمكن” مُجتازًا أعتى الصعوبات التي تواجه أيّ كاتبٍ حين يُمسكُ بالقارئ ويستحثّه على المتابعة لقراءتِهِ وانتقائِهِ فيما بعد؛ فأضفى على جمال الحرفِ بهاءَ التصميمِ الموشّحِ بمخطوطةِ الغلافِ للمُبْدع د.إبراهيم الجوريشي، ودعمهُ بعنوان ثانويّ لا أقلّ من أنْ يُوصفَ بأنّهُ يفتحُ شهيّة (الببلومانيّين) لسيرةٍ من نوعٍ آخر، ويحفّز غيرَهم للبحث والتساؤل عمّا وراءه من معانٍ.

هذا الكتاب الصادر عن دار تشكيل للنشر والتوزيع ينتمي لفئةِ الكتبِ متوسطةِ الحجْم، ويضمّ بين دفّتيْه 60 نصًا مدرجةً على أبواب خمسةٍ تثيرُ حوافز القرّاء وتفتح شهية الفضول: (عشْق البدايات، الحياة مع الكتب، غراميات القراءة والكتب، في دروب الكتابة، في أحضان القراءة ) ..

ففي فصله الأول ترافقكَ أحلامُ الطفولة وتشكّلها في صورة بائعٍ للكتب مقلدٍ ومتأثرٍ بحبٍّ زرعهُ والدُهُ نحو كائناتٍ منْ ورَق، طفلٌ تطاردُ عيونُه الكتبَ من شوارعِ الأحياءِ القديمةِ بمكتباتِها التجارية وبسْطاتِها العامِرة إلى رفوفِ الأصدقاءِ والجيرانِ .. انتقالاً لمعيّتِهِ عبْر مكتباتِ المدارسِ حينما كانتْ المدرسةُ ظلالاً وارفةً للمكتبات.

وحْدَها الكتبُ كانتْ تُحلّقُ بهِ بعيدًا مُترنّمًا بمقولة الجاحظ “إذا كان للطيور أجنحة فللبشر كتب” .. والقارئ للكتاب سيقعُ على نصٍ عالِقٍ في ذاكرةِ الطفولةِ معنْوَنٌ له بـ”يوم مع المجانين” أتركُ للقارئ مُتعةَ اكتشافهِ وتذوّقِ مايكتنِفُهُ من نَقاءِ الأرواحِ المُتحرّرةِ من قيودِ العقل.

ومن “عشق البدايات” ينقلنا الكاتبُ لمرحلةٍ جديدةٍ من “الحياة مع الكتب”، وطقوس القراءة على نغمات الموسيقى .. فما أجمل الاقتران بين نسماتِ الحبّ وعُذوبةِ اللّحْن حينما كتب وقال : “لعل أكثر مراحل الحب عذوبة حينما يصلبكَ أوتارا على عُودِ العشق” .. ومن عاش حياته مع الكتب وآمنَ بقُدرتِها على التغيير لا يُلامُ على تنديدهِ بثقافةِ الإقصاءِ التي تُمارَسُ ضِدّها سواءً شاركتْ في محْرقةِ كتُبِ ابن رُشْدٍ أو اكتفت بالمنع في “ليلة القبض على الكتب” 

حِدّة الدفاع عن الكتب بعد ذلك تذوبُ كقطعةِ سُكرٍ في ثنايا فصلٍ ساخِنٍ بالحُب يموج بـ “غراميات القراءة والكتب” دبّج فيه الكاتبُ 16 نصا تتدفّقُ بالرومانسيّاتِ الحالِمة والغمُوضِ المُبْهم؛ فمَنْ ذا الذي يُجيدُ سبْرَ الأغوارِ وقراءةَ ما بيْن السطورِ لاكتشافِ أسرارٍ من الحبِّ تسكنُ روحَ كاتبها ؟! ومَنْ هو المحبوبُ الذي يتغنّى بحُضُورهِ في “مواسِم الحُبّ والكتب” بين دواوينِ الغزَل وسراديق المَعارض ؟! فضولٌ يشعُّ بريقهُ بعيُونِ القارئ بينما تستكينُ الحقيقةُ وحدَها في اعترافاتِ الكاتِب عن حبٍّ يمارسُ فيهِ لعبةَ الظهورِ والخفاءِ .. لا يلبثُ الكتابُ أن ياخذكَ معهُ “في دروب الكتابة”؛ ليختم بالقراءة كخيْرِ مَحْضِنٍ لعُشّاقِها بتنبيهٍ موشّى  بفخامَةِ البدايات. 

ولقارئ الكتاب وقفاتٌ لابد منها مع كل صفحةٍ تحمل إثراءً في الاقتباس بعلوٍّ في الذائقة لمّنْ شاركوهُ المعنى وقطف الثمرة : “العقول كالمظلات لا تعمل إلا عندما تفتح”، “النجاة لا تزال ممكنة عن طريق الكتابة”، “في مهبّ عواصفِ الزمن أقمْتُ لنفسِي كوخًا من الوَرَق”.

كاتبٌ يُجيدُ تطويعَ الكلماتِ، وتغليفَ الحروف؛ لتُصبحَ بحقّ هديةً باذِخةً لمُحِبّي القراءة .. فهي حقاً حياةٌ ولربّما رحلةٌ مُمتدةٌ لكلّ عاشِقٍ يعلو بأشرعَتِهِ نحو جزيرةِ القراءةِ السّاحِرة ..

ولعلك في ختام هذا الكتابِ تصلُ إلى نهايةِ رحلةٍ مُمتِعة؛ ستحاولُ فيها بصعوبة إغلاقه وقد علتْ وجهكَ ابتسامةُ رضا وقناعةٌ متجدّدةٌ بمقولة العقاد : “عندي حياة واحدةٌ وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة “.

Related Articles

One Comment

  1. كل الشكر والتقدير للزميلة الكاتبة هنادي المطيري على هذه القراءة الباذخة والعميقة لكتابي الجديد ( قراءة حب ) .. ممنون لهذا القلم وسعيد بانضمامه إلى كوكبة الزملاء الكتّاب والكاتبات في صحيفة مكة الإلكترونية .. شكراً من الأعماق .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button