اتصلت بعبدالله الغذامي هذا الأسبوع..
جرى بيننا حوار من نوع خاص.. لم يكن حواراً بالمعنى الصحيح.. كان درساً من دروس الغذامي.. أعني دروسه تلك التي تسمعها، فتنمو في طريقك فوانيس الهمة، وتتدلى فيها عناقيد الأمل..
انتقدني -بل وهاجمني- كثير من الأصدقاء والصديقات على مواقفي الأخيرة من بعض أفكار الغذامي وترجماته، بعضهـ(ن) رأين في انتقادي للغذامي تطاول تلميذ على أستاذه، وأنا أعتذر للغذامي ولكل من فهم هذا الفهم.. لكني بالطبع لم أقصد يوماً ذلك.. وهناك من رأى أني (شفت) حالي، وصدقت أني ناقد (حقيقي)، ولهؤلاء أعتذر أيضاً..
يعلم جميع الأصدقاء المقربين علاقتي بمشروع الغذامي منذ وقت مبكر.. فقد أثر بي فكره، كما تأثرت بشخصيته.. ولا أحسب أني الوحيد، معظم أبناء جيلي وقعوا تحت تأثيره (ربما).. كنت دوماً متحمساً للغذامي، ولأفكاره.. لطالما غذّتْ جرأته شخصيتي النقدية، ولطالما تعلمت منه أن أدافع عن فكرتي، وأن أطارد المعرفة بنهم، وأن أخرج من عباءة التقليد وقيود المحافظة، وسلطة التفكير النمطي الرتيب. أتذكر معارك كانت مع أصدقاء مقربين بسبب هذا، مع حليمة مظفر.. وأحمد اللهيب.. وغيرهما!
مع مرور الأيام تعلقت أيضاً بالبازعي والسريحي وخزندار (رحمه الله) وغيرهم.. وهكذا تابعت وأتابع صقل شخصيتي.. يعلم الجميع أني قارئ في النقد والنظرية، وأتابع الكتاب العرب وغير العرب.. لكني أنتمي لهذه الزمرة من النقاد الذين يجمعني بهم همٌ مشترك.. وطنٌ مشترك.. وسأظل أرى نفسي امتداداً لهم على الدوام.
اتصلتُ بالغذامي.. للسلام.. لتجديد العهد.. ولاستئذانه …
يُفترض أن أبدأ قريباً بترجمة رسالتي للدكتوراه إلى العربية، وللغذامي منها -كما يعلم بعضكم- نصيب وافر.. ولأني تلميذ للغذامي فقد حملتْ الرسالة الكثير مما سيُعجب الغذامي أن يقرأه عن مشروعه، وربما الكثير -والكثير- مما لن يعجبه، ولن يعجب محبيه. فارتأيت أن يكون اتصالي مقدمة اعتذار واستئذان.. فانهال الغذامي شلالاً من حكمة:
– لا تستأذن يا عادل.. ولا يجب أن تفعل! هذا خطأ فادح.. أنت لا تكتب لترضي شخصاً، ليس هذا هو العلم، ولو أن كلاً منا توقف عن النشر لأن كلامه قد يغضب شخصاً ما، لما تقدم العلم، ولما تقدمت النظرية! كان هذا هو الدرس الأول.
– أما بالنسبة للترجمة، فأنا أميل -يكمل الغذامي- لما أدعوه «التعريب».. فمادام العمل عملك، فحاول أن تتشرب الفكرة وتعيد صياغتها بلغتك، دون أن ترتبط بالنص الأصلي، وإلا فإن العجمة ستسيطر على أفكارك وعلى لغتك.. وربما تشوهها. لا بد من إراحة النص حتى ينطلق أمامك كسهل فسيح! وكان هذا الدرس التالي.
– النظريات كثيرة نعم.. وفهم النظرية جيد، لكنه ليس شيئاً.. الأمر -كل الأمر- في التطبيق.. خذ النظرية لحقل التطبيق، وانظر ما يستجد معك.. انظر كيف يهز التطبيق قواعد كنت تعتقد أنها ثابتة، وكيف أنك ستبدأ شيئاً فشيئاً بوضع بصمتك التي تكون علامة عليك… «ليس هناك شيء هو ذات الشيء…». الكون لا يتقدم إلا عبر التطبيق.. التطبيق هو الخطوة الإضافية.. قضى طرابيشي عمراً كاملاً في نقد مشروع الجابري.. لكن العالم كله يعرف الجابري، ويشير لمشروعه بالبنان.. لا أحد يهتم (ربما) لما فعله طرابيشي.. إدوارد سعيد تشرّب أفكار فوكو.. لكنه لم يُنخ ركابه عندها، بل كانت طريقه «للاستشراق».. طريقه للخلود..!! وكان هذا درساً آخر.. تلاه آخر.. ثم آخر…
هذا هو الغذامي.. يرى البِرْكة.. يلقي حجاره فيها (وهي تحتضنها ممتنة).. ثم يمضي.. لبِرْكة أخرى.. بحجارة أخرى.. ودهشات أخرى..!!