عوضه الدوسي

البُعد الآخر لبيت الباحة

ونحن على أعتاب أبواب التوديع للجنادرية 33 التي حملت هذا العام عنوانًا آخر لقيم ومبادئ هذا الوطن الغالي (وفاء وولاء), وفاء للماضي وولاء للحاضر؛ ليشكل رمزية وطنية متفردة حيث خُطَ عنوان هذا العام باللون الأخضر فبدت ملامح الوطنية ناصعة بزهو، الأمر الذي يؤكد بجلاء دور الجهات المنظمة بعد أن عملت ببراعة وإتقان على ظهور شعار هذا العام ليكون متمايزًا عن غيره من الأعوام السابقة ويكون مختلفًا تمامًا ليواكب المرحلة بكل أبعادها، فبدت ملامح الشعار ترتبط بوثوق بين بعدي الماضي والحاضر، وكذا استشراف أفق المستقبل بعد أن وُسم الشعار بملامح الرؤية وروعة الخط العربي برسمه الزخرفي البارع والفن في التصميم للكتابة للشعار مما أكسب ذلك ملمحًا غائرًا في التاريخ العربي، وجاءت صورة الشعار في سياق تحرير بصري رائع تستدعي ثقافة وتاريخ، من هنا استحق المهرجان مرتبة الصدارة لتفعيل مفهوم التراث والثقافة، ولتكون تلك الكثبان الرملية في أرض الجنادرية هي من يحتضن هذا الإرث الحضاري والثقافي للإنسان السعودي والعربي، فقد بدأ بيت الباحة في هذه التظاهرة العالمية يجسد وجهًا مشرقًا لتراث المنطقة، والجنادرية وهي لاشك حلقة وصل لنقل هذه الموروثات إلى العالمية باعتبار ما تضمنته منطقة الباحة يُعدُ إرثًا حضاريًا إنسانيًا جدير بأن يعرفه هذا العالم كونه وقوعًا من إيقاعات مختلفة بوجهيه المادي والمعنوي, لاسيما مع ثورة الاتصالات والوسائط الرقمية التي تلازم الإنسان في خلطاته وخلواته.  

إنني كمتابع أتأسف جدًا على ما يحدث من البعض؛ حيث كاد يتفشى حسيس التذمر عبر برامج التواصل الاجتماعي؛ وذلك مع بداية البرامج والفعاليات اليومية فقد تدول البعض قصور محاكاة بيت الباحة عن الواقع، وهذا أمر يجافي الحقيقة، والمؤلم أن هناك من ينساق خلف هذه المفاهيم دون النظر في آليات الجهود المبذولة بما استوعبه البيت لكل موروث في الباحة ولا يجب نشكك في الجهود أو ننتقصها، وقد عزيت ذلك ولعلي لم أكن آثمًا، عزيت ذلك إلى أن البعض يستعجل النتائج والبعض الآخر يحاول الاستئثار بالمباهج مع رسالة مبطنة تهتف بصوت خجول يحمله الآخر عنه دون عناء أملًا في أن يصل صوت ولو لجلبة وضجيج من خلال التفاعل الأعمى في الحسابات الرقمية والتداول ضمن مجموعات في برامج التواصل ولا تهدف إلا إلى (نحن هنا) وبسؤال صامت لماذا لم نشارك ؟ وكنت أتمنى أن تقدم اقتراحاتهم وملاحظاتهم إلى مقام الإمارة وإلى اللجان المعنية، وإلى الوفد الذي تظهر عليه وعثاء السفر ومشقة الترحال وجهد الدور دون أن يُشكر منهم، ودون عناء أو سابق معرفة  التقيت برئيس الوفد الأستاذ/ محمد بن لافي، وكان شعلة متقدة ومتفانيًا في إظهار بيت الباحة بوجهه المشرق, وكذلك من مَنْ سعدت بلقائه الأستاذ/ مهدي الكناني رئيس اللجنة الإعلامية؛ حيث ذكر لي نشاطًا منقطع النظير ومختلفًا تمامًا عن الأعوام السابقة، وأفاد أن هناك إصدارات يومية عن بيت الباحة يقوم عليها نخبة من الإعلاميين من أبناء وبنات المنطقة على أشكال مختلفة وبرامج متعددة منه هو ما هو مكتوب ومنه ما هو مرئي مدعومًا بصور للأمكنة والمواقع وخصائص الموروث وأنواعه، وهذا لاشك يعزز المعرفة الثقافية والانتماء لقيم الموروث عند الجمهور والمتلقي, ويدعم الجوانب السياحية في مرحلة لاحقة الأمر الذي سيوصل رسالة إعلامية لمن هم خارج دائرة البيت الباحوي في الجنادرية؛ حيث كان الإصدار يحمل عنوانًا محفزًا للاطلاع والاستطلاع تحت عنوان (ذاكرة الباحة) وفي ميدان العرضة كان يتصدر المشهد رئيس لجنة الفرق الشعبية الأستاذ/ يحي اللساب، فقد جمع بين إجادة شعر العرضة وحرفية الفلكلور الشعبي.

إن بيت الباحة في الجنادرية يتماس مع كثيرًا من الأنساق الثقافية في المنطقة، والتي تتمثل في كل ملامح البناء وفي كل الزوايا المختلفة فالأحجار (الحصى) ذات الأبعاد المتباينة بتحديات يصعب لغير الماهر أن تخرج كما هو الشكل في بيت الباحة بعد أن رصفت بدقة هندسية رائعة منحها روعة وجمال حتى أكسبت حائط البيت مهارة الإنسان الباحوي، ومع أن المدماك في حائط البيت والحصون يتجاوز عرضُه المتر الواحد مما يزيد الجهود والكلفة وجودة ودقة البناء لعمل متقن بحرفية عالية، وفي السقوف ترصف أخشاب شجر العرعر كأقراط الموز، وبرغم بعض تعرجاتها حيث يظهر نتوءات بارزة إلا أن البناء الماهر يتغلب عليها برصفها باقتدار ومهارة في المكان المناسب مما يكسبها جمالية رائعة تستهوي كل  ناظر إليها، وغير بعيد النوافذ الخشبية بعد أن زخرفت بالنقش وبدقة عالية وبأشكال هندسية رائعة لتطلى بعد ذلك بمادة القار المستخرج من شجر الزيتون، والذي يعرف محليًا حسب ثقافة المنطقة بشجر (العتم) هناك فقط تلمح فيها البعد الآخر لبيت الباحة بسماته المتباينة من خلال ثنائيتي المهارة والمعرفة. ولا أود أن أطيل الحديث فهناك في بيت الباحة والرواق المجاور بيئة ثقافية متعددة ووقوع من إيقاعات الحياة الباحوية المختلفة، الأمر الذي يستوي كل شخص، بل وحتى يقف حد الذهول لروعة وقدرة إنسان المنطقة، فقد تحدى الصعاب في بيئة قاسية حوّل فيها الصخر إلى عوالم أخرى، وإلى معالم من الحسن والجمال، وإلى لوحة مشهدية فاتنة حد الإغواء، بيت الباحة هذا العام متألق عنان السماء، ولذا يطيب لي أن أنتهز هذه الفرصة وفي عجالة؛ لأن أعرب عن امتناني وشكري لمقام الإمارة ولشخص سمو الأمير حسام بن سعود  -يحفظه الله- وإلى كل القائمين على هذا العمل المتميز الذي أزاح الستار عن لوحة جميلة مغنية حد الإبداع من الإرث الثقافي والحضاري للمنطقة، وتجلى فيه البعد الآخر لبيت الباحة وإنسان المنطقة. وإلى لقاء

                                                                عوضة بن علي الدوسي- ماجستير في الأدب والنقد

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button