مع هطول الأمطار خلال الأشهر الماضية، نجحت أمانة جدة تحت إدارة أمينها الجديد، صالح التركي، في تحقيق أفضل معدلات الأداء في التعامل معها. فقد كانت أجهزة الأمانة مستنفرة بشكل غير مسبوق واستطاعت في كل مرة، وخلال ساعات قليلة من تصريف المياه، وفتح معظم الطرقات العامة.
كما لاحظنا اهتمامًا خاصًا بمشاريع تصريف الأمطار خلال نفس الفترة، وسرعة في تنفيذها، بما ينبئ عن استعدادات أفضل في المواسم المطرية القادمة. ونأمل أن يرافق ذلك الاهتمام بمشكلة ارتفاع المياه الجوفية بشكل يهدد البنية التحتية للمدينة.
ولا يلام الأمين الحالي على تراكمات استراتيجية وتخطيطية عبر عشرات السنين. فقد كان أمين مدينة جدة الأشهر، المهندس محمد سعيد فارسي، أول من تبنى (في السبعينيات الميلادية) منطق أن الأمطار لا تهطل على جدة أكثر من بضع أيام في السنة، والأجدى تحويل بنود الصرف المخصصة لبناء شبكة تصريف الأمطار إلى مشاريع أخرى أكثر إلحاحًا وجدوى.
هذا المنطق تبناه فيما بعد وزراء بلديات وأمناء ليس في جدة وحدها، ولكن في مختلف مدن المملكة. وكانت النتيجة هي هذا الغرق الذي ابتلينا به في كل موسم أمطار، وازداد سواء مع توسع المدن والبنية التحتية وخاصة أنفاق الطرق.
في جدة تكرر الأمر ثلاث مرات متوالية في الخمس السنوات الأخيرة، ووجدنا أنفسنا نطل على البحر في كل شارع، وكأننا مدينة البندقية الإيطالية، مع الساعات الأولى لهطول الأمطار. حتى أصبحت “الرحمة” التي كنا ننتظرها ونصلي من أجلها، “نقمة” تغرقنا، وتهدد حياتنا وبيوتنا ومركباتنا كل عام.
العجيب في الأمر أن ميزانيات ضخمة أعلن عن تخصيصها بعد كل كارثة لبناء شبكة تصريف أمطار في كافة الأحياء والطرق، وأننا في كل مرة نكتشف أن الوعد لم يتحقق، وأن المدينة تغرق في “شبر موية”. وقبل أن تسأل عن السبب تصدر التصريحات من المسئولين عن القطاعات المختلفة يرمي كل طرف اللوم على الآخر. فالأمانة تلوم الكهرباء التي تسبب انقطاعها في تعطل مكائن الضخ لسبعة أنفاق رئيسية، ثم تعد بإنشاء مكائن جديدة لأن الحالية ضعيفة، والكهرباء تتهم الأمانة بالإهمال في الصيانة والتشغيل، وتستغرب عدم تشغيل المكائن الاحتياطية، والمواطن يتفرج ويسأل لماذا لم يتم تجريب هذه التجهيزات وغيرها من الاستعدادات قبل موسم المطر، خاصة وأن الأرصاد الجوية توقعت ونبهت قبلها بفترة كافية، ويتذكر أن الأمر نفسه تكرر من قبل، والوعود نفسها صدرت ولم يتم تنفيذها.
لا يصح هنا، تحريًا للعدل، أن نتهم هذه الأجهزة بالفشل التام، ولا أن ننسى أن مشاريعًا كبرى تحققت ونجحت. فمشروع تصريف السيول الذي تولت الإشراف عليه إمارة منطقة مكة المكرمة نجح في صد السيول وتحويلها إلى البحر والصحراء، عبر شبكة فعالة من السدود والمجاري والأنفاق والأنابيب. وأمانة جدة حققت طفرة غير مسبوقة في بنية شبكات الطرق خففت إلى حد كبير من أزمات السير، ولازالت تتطور كل عام ضمن خطة مدروسة وطموحة طويلة المدى. وشركة الكهرباء استطاعت أن تواكب التوسع الكبير في البناء والتعمير الحكومي والتجاري والخاص، وتوفر احتياجات الطاقة بكفاءة، خاصة في المواسم، كالصيف ورمضان والحج. وشبكة مياه المجاري وصلت إلى معظم الأحياء بوسط وأطراف المدينة، والمشروع يتمدد كل عام ليشمل المزيد من المناطق.
كما لا يصح أن نتهم جميع المسؤولين والعاملين في الأجهزة الحكومية بالتقصير، ولا أن نتجاهل جهود من قدموا نموذجًا يحتذى للتفاني والإخلاص، كالدفاع المدني والشرطة والمرور والهلال الأحمر والمستشفيات والمراكز الصحية، وكذا المراكز البلدية التي قادت ونظمت نشاط العمل التطوعي.
الحاجة ماسة لإعادة النظر في المنطق القديم، الذي أثبت فشله عامًا بعد عام، ورفع أولوية تصريف الأمطار والسيول إلى أعلى القائمة. وإلى تجميع الجهود وتركيزها بدلًا من تشتتها بين البلديات والمياه والإمارات، وأن نحذو حذو من سبقنا من الدول بتجميع كافة الخدمات في شبكة أنفاق موحدة، فيسهل تشغيلها وصيانتها. ولنا في نفق أبو ظبي لتصريف المياه والأمطار نموذجًا يستحق الدراسة والاستفادة.