تحرص الحكومات على سن الأنظمة لضمان استقرار المجتمعات وتطورها في مختلف الجوانب وكافة الأصعدة. ولأن أي نظام يوضع ينتهي إلى أحكام نافذة ومضامين سارية المفعول، ويستمر الأخذ بها حتى يجري تعديلها أو إلغاؤها من نفس السلطة التي سنتها.
والمعروف أن أي نظام يعد لابد وأن يدرس من قبل المختصين دراسة عميقة من جميع الجوانب، وأن يكون متسقًا مع الدستور المعتمد، ويمر بمراجعات قانونية من ذوي الخبرة والاختصاص، وأن يكون واضحًا ودقيقًا ومصاغًا بشكل سليم من قبل السلطة التشريعية. والغاية من النظام في الأخير تحقيق المصلحة، ورفع المفسدة في شؤون الدولة وفقًا لمواد دستور أي بلد.
ومعلوم أن النظام يمر بعدة مراحل قبل اعتماده ليتواءم مع أنظمة التحكيم الدولية بهدف اتخاذ الإجراءات البديلة والخطوات السريعة؛ لحل النزاعات القائمة وتسوية الخلافات بما يجبر الضرر ويرفع الحيف ويحقق العدل. وهو يسير بشكل مختلف نسبيًا عن المحاكم التي ترمي في الأخير إلى إنهاء الدعاوى لا إلى إنهاء النزاعات.
والدين الإسلامي الحنيف دعا إلى ذلك، وحث عليه في كثير من المواضع لحل الخلافات في مختلف مجالات الحياة. والأمر بوجود حكم من طرفين ورد في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف “الصلح خير” ينطلق في هذا المسار بالقبول وإنهاء النزاعات، وحسم الدعاوى بشكل إيجابي يرضي الطرفين وهذا هو المطلوب.
والمملكة العربية السعودية طبقت نظام التحكيم على ضوء الشريعة الإسلامية؛ وذلك تمشيًا مع الأنظمة الدولية في هذا الخصوص. والغرض من ذلك التخفيف على المحاكم الشرعية، وحسم النزاعات التي قد تأخذ وقتًا طويلًا في المحاكم، فمنطلق التحكيم المشروط (اتفاق بين طرفين أو أكثر على أن يحيلا إلى التحكيم جميع أو بعض المنازعات المحددة التي نشأت أو قد تنشأ بينهما في شأن علاقة نظامية محددة تعاقدية كانت أو غير تعاقدية سواء أكان اتفاق التحكيم في صورة شروط تحكيم وارد في عقد أم في صورة مشارطة تحكيمية مستقلة).
ومقاصد التحكيم جيدة في الأساس، إلا أن هناك من يخطط لاستغلال شرط التحكيم لمنافع ذاتية خاصة من أصحاب المقاولات العمرانية؛ حيث يحرصون على تضمين شرط التحكيم ضمن بنود عقودهم التي يوقعونها مع أناس لا يعرفون هذا الشرط ولا معنى التحكيم ولا متطلباته، فكل ما يهمهم بناء منزل يأويهم أو عمارة سكنية صغيرة يدفعون فيها كل ما لديهم فيصبحون ضحايا لأولئك المحتالين بالتأخير والتسويف، واستغلال جهلهم بتعطيل أمورهم، وتأخير أعمالهم وعدم الاهتمام بجودة التنفيذ. وإذا ما لجأ أولئك للمحاكم الشرعية كجهة يعرفونها للفصل في مثل هذه القضايا، احتج المحتالون أمام القضاء بشرط التحكيم حسب الأنظمة الرسمية المتبعة، لعلمهم بعدم قدرة أولئك -أصحاب العقارات الصغيرة- لضعف ملاءتهم وعدم قدرتهم على دفع المبالغ المالية المطلوبة لهيئات التحكيم بعد نفاد ما لديهم؛ مما يزيد في تأخير إنجاز أعمالهم، وتعطيل مصالحهم، وضياع حقوقهم. علمًا بأن بعض الخلافات لا تدخل في الجانب الفني أو الإنشائي، ولكنها تقع تحت الأسلوب الاحتيالي الواضح، والذي يجب أن تفصل فيه المحاكم الشرعية دون غيرها.
عبد الناصر بن علي الكرت