عَرَفْتُ، في عهدٍ بعيدٍ، خمسةَ كُتُبٍ لها عندي، اليَوْمَ،مقامٌ أَثير، وأَذْكُرُ أنَّني، منذ وَقَفْتُ عليها، لمْ أَنْسَها، ولمْ أَجْفُها؛ أوَّلُها الجَمْر والرَّماد: ذِكريات مثقَّفٍ عربيّ لهشام شرابيّ، وثانيها حياتي لأحمد أمين، وثالِثُها الأيَّام لطه حسين، ورابِعُها في صالون العقَّاد كانتْ لنا أيَّام لأنيس منصور، وخامِسُها المُنْتَقَى مِنْ دِراسات المستشرقين لصلاح الدِّين المُنَجِّد.
كُلُّ هذه الكُتُب تَشُدُّها إلى السِّيرة الذَّاتيَّة – أو التَّرجمة الشَّخصيَّة – آصِرَةٌ ونَسَب. فأَمَّا الجَمْرُ والرَّمادوحياتي فَعَرَفْتُهُما في أوَّلِ عهدي بالجامعة، وأَمَّا الأيَّامُفَحَسْبُهُ أنَّه أَعْظَمُ كُتُبِ هذا الفَنِّ قَدْرًا، وأَبْعَدُها صِيتًا، في الأدب العربيِّ المعاصر، وأَمَّا في صالون العقَّاد كانتْ لنا أيَّام فكان في سِيرة أنيس منصور، مهما تَوَهَّمْناهسِيرة للعقَّاد، وإنْ أَرَدْنا التَّحقيق سِيرة نَدْوته الأدبيِّة المشهورة، فإذا بَلَغْتُ المُنْتَقَى مِنْ دِراسات المستشرقينفللمقالة الأُولى فيه؛ تلك الَّتي أنشأَها المستشرق الألمانيّ الكبير كارل بروكلمان، بلسانٍ عربيٍّ مبين، ودعاها “ما صَنَّفَ علماء العرب في أحوال أنْفُسِهِم”.
كان ذلك، فيما أُقَدِّر، أَوَّل عهدي بـ“السِّيرة الذَّاتيَّة”،حتَّى إذا تَقَدَّمَ بي الزَّمانُ، اتَّصَلْتُ بهذا النَّوْع الأدبيّ،وصِنْوِهِ الآخَر “السِّيرة الموضوعيَّة” – وإنْ شِئْتَ الغيريَّة –واستهواني، مِنْ هذه الأخيرة، ما ارتفَعَ إلى شَجَرَة الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، ولها فيها مَقامٌ لا يُدانيه مقام، لا سِيَّماأنَّه اتَّفَقَ لي، في أوَّل اتِّصالي بالقراءة، أنْ عَرَفْتُ كِتابًا هو أَدْخَلُ بهذا الضَّرْب مِنَ التَّأليف، لَمَّا وَقَعْتُ، على غير إرادةٍ مِنِّي، على كِتاب تذكرة الحُفَّاظ للإمام شمس الدِّين الذَّهبيّ (673-748هـ)، وعناية المُحَقِّق العلَّامة الشَّيخ عبد الرَّحمن المُعَلِّمِيّ اليمانيّ، وأدركْتُ، في ذلك الزَّمن المُتَقَادِم البعيد، مِقدار ما أَدَّاه العرب في هذا اللَّوْن مِنَ التَّأليف،حتَّى إذا نَظَرْتُ في بَحْث كارل بروكلمان “ما صَنَّفَ علماء العرب في أحوال أَنْفُسِهم”، فُسِحَتْ لي معرفةٌ جديدةٌ بِلَوْنٍ آخَرَ طريفٍ مِنْ فنِّ التَّراجِم والسِّيَر، أداره العلماء العرب في أحوال أَنْفُسِهم، إذا استعرْتُ عِبارة المستشرق الألمانيّ الجليل، فَسَمَتْ نَفْسي، مِنْ ذلك الوقت، إلى الوقوف على هذه النَّاحِية مِنَ التَّأليف في تراث العرب القديم والحديث.
ومِمَّا أذكره أنَّه استجلَبَ نظري عِبَارة بروكلمان، الَّتي عَنْوَنَ بها بحثه، أعني “ما صَنَّفَ علماء العرب في أحوال أَنْفُسِهم”. كانتِ العِبارَةُ جديدةً عليَّ، ولمْ ألتَفِتْ، آنئذٍ، إلى النُّكتة اللَّطيفة فيها؛ وكأنَّما أراد كارل بروكلمان – ومَقامُهُ في الدِّراسات الإسلاميَّة كبير – أن يَتَجَنَّبَ نَقْل العِبارة الأعجميَّة Autobiography إلى لسان مُضَر الَّذي رَقَشَ به بحثه، فلمْ يُؤْثِرْ تلك العِبَارة المنقولة: “السِّيرة الذَّاتيَّة”، أو “التَّرجمة الذَّاتيَّة”، وكِلْتاهُما مِنَ الكَلِمِ الشَّائعِ المشهور =واحترَزَ، وأَعْرَضَ عن المصطلَح الأعجميّ، حتَّى يَتَّفِقَ العرب المُحْدَثُون على مُصطلح يُؤَدُّون به ما يريدونه مِنْ ذلك النَّوْع الأدبيّ. والحقُّ أنَّني أَجِدُ في نَفْسي مَيْلًا إلى ما اصطنعه المستشرق الألمانيّ الجليل، وأراه أَمَتَّ صِلَةً بلسان العرب ومُرَادِهِم.
اتَّصَلَتْ أسبابي بهذا اللَّوْن مِنَ الأدب، وقَوِيَ ما بيني وبينه، في بابه الوسيع الفَسِيح “السِّيرة”، وفي قِسْمَيْها المذكورَيْن: “السِّيرة الذَّاتيَّة” و”السِّيرة الموضوعيَّة”، وجَعَلْتُ أُعَمِّق صِلَتي بِكُتُب هذا الفنّ، فَلَمَّا أَتْمَمْتُ دراستي وظَفِرْتُ بالإجازة الجامعيَّة، كُنْتُ قدْ عَرَفْتُ كِتابَيْن مِنْ كُتُب العلَّامة الجليل الدَّكتور إحسان عبَّاس – رحمه الله – تَوَخَّى فيهما تيسير المعرفة النَّقْدِيَّة وتقريبها، أَعْنِي فنّ الشِّعْر وفنّ السِّيرة، ولهما عندي مَوقِعٌ عظيمٌ، يَفُوق ما أراده الشَّيخُ الجليل مِنْهما، يومَ أنشأَ هو ورفيق دربه العلَّامة الدَّكتور محمَّد يوسف نجم سلسلةً، قَدَّما فيها نُبَذًا مِنَ النَّقْد ونَظَرِيَّة الفنون الأدبيَّة، ولكلِّ كُتُب تلك “السِّلسلة” ذِكرياتٌ حُلْوَةٌ في عقلي وقلبي ووجداني.
أحبَبْتُ “أدب السِّيرة”، بِشِقَّيْهِ، ومِمَّا عَمَّقَ هذه الصِّلة،وأَلْهَبَ ذلك الحُبّ، أنَّه اتَّفَقَ لي أنْ ظَفِرْتُ بِقَدْرٍ صالحٍ مِنْ كُتُب هذا الفنّ، وبخاصَّةٍ “السِّيرة الذَّاتيَّة” – أوْ ما صَنَّفَ العربُ في أحوال أَنْفُسِهم! – إنشاءً وتاريخًا ونَقْدًا، فقرأْتُ ما شاءَ ليَ الله أنْ أقرأ، وكُنْتُ أترقَّبُ ما تُذِيعه دُور النَّشْر،لِأَظْهَرَ عليه، فَقَرَأْتُ وقَرَأْتُ، ووَقَفْتُ على جُمْلةٍ مِمَّا أنشأَه العرب قديمًا وحديثًا، ورأيتُني أَقْرَبَ، عقلًا ووجدانًا، إلى هذا “النَّوْع الأدبيّ”، وأَلْفَيْتُ فيه ضُرُوبًا مِنَ المتعة، مِنْها ما يُدْنِيهِ إلى الأدب، ومِنْها ما يَشُدُّهُ إلى التَّاريخ، وأعجبَني ما أنشأَهُ كُتَّابٌ وأدباءٌ ومسؤولون في أحوال أَنْفُسِهم؛ أَعُدُّ مِنْهُمْ، ولا أُعَدِّدُهُمْ: طه حسين، وأحمد أمين، ومحمَّد كُرْد عليَّ، وأحمد السِّباعيّ، وعزيز ضياء، وحمد الجاسر،وعليّ الطَّنطاويّ، وغازي القصيبيّ، وزكيّ نجيب محمود،وإحسان عبَّاس، ولويس عوض، وجلال أمين، وجابر عصفور، ومحمود السَّمْرة، وإدوارد سعيد، وعُمَر فَرُّوخ،هذا العلَّامة الجليل الَّذي يستحِقُّ مِنِّي كلمةً في هذه المُقَدِّمة:
عَرَفْتُ الدَّكتور عُمَر فَرُّوخ، أوَّلَ اختلافي إلى الجامعة،وكان كِتابُهُ هذا الشِّعْر الحديث! باكورة ما قَرَأْتُهُ مِنْ آثاره النَّافعة، واستجلَبَ نظري في كِتابه هذا، وفي كُتُبه الأُخرى، أنَّ مِنْ عادته ووَكْدِهِ أن يَتَبَسَّطَ في مُقَدِّماتها،حتَّى تبلغ صفحاتٍ غِزَارًا، وأنَّه اعتاد أن يُدِيرَ تلك المُقَدِّمات في “أحوال نَفْسِه”، وكأنَّه لا حاجِزَ بين ما يعتقده الرَّجُل وما يَعِيشُه، فَلَمَّا تَوَثَّقَتْ صِلَتي بِكُتُبه الأُخرى، إذا بي أكثر معرفةً بحياته، ونشأته، وأُسْرته، وأبويه، وأبنائه، وأساتذته،وأصدقائه، وطُلَّابه، وشُؤون أُخرى مِمَّا اضطربَ فيه، وكُلَّما اهتدَيْتُ إلى كِتابٍ آخَرَ جديدٍ مِمَّا صَنَّفَ، أُتِيحَتْ لي معرفةٌ أَعْمَقُ بأحواله، وكُنْتُ أَتَتَبَّعُ العلَّامة الجليل فيما أَلَّفَ وتَرْجَمَ ونَشَرَ، وأَبْذُل وُسْعِي لِأَبْلُغَ ما أريد مِنْ آثاره، ومِنْها مَجَلَّة الباحث؛ تلك الَّتي أنشأَها هو وصديقُه الدَّكتور عليّ زيعور، فَلَمَّا سَمِعْتُ أنَّه أَخْرَجَ، مِنْ قَبْلُ، كِتابًا في سِيرتَه،دَعَاه غُبَار السِّنين (1405هـ=1985م) = لمْ يَقَرَّ لي قرار حتَّى ظَفِرْتُ به، فَلَمَّا ظَفِرْتُ به جَعَلْتُ أقرأه، فإذا قرأْتُه عُدْتُ إليه مَرَّةً تِلْوَ مَرَّة، وبَلَغَ بي شغفي أنْ حَدَّثْتُ عنه بعض الصَّديق، وجعلوا يسألون عنه، ويُلِحُّون في طَلَبِه، ولمْ ينالوه إلَّا بَعْدَ جُهْدٍ ومَشَقَّة، فرَجَوْتُ القائمين على أمر مكتبة كُنُوز المعرفة بِجُدَّة، أن يَسْعَوْا إلى دار النَّشْر اللُبنانيَّة الَّتي نَشَرَتْه قديمًا = بإعادة نَشْره، مَرَّةً أخرى، وقدْ كان! وما ذلك إلَّا لِمَا انطوَتْ عليه سِيرته مِنْ قِيَمٍ، وما أَدَّتْهُ إلينا مِنْ دُرُوس، مهما كان بناؤها سهلًا يسيرًا.
رُبَّما انقلَبَتْ هذه المُقَدِّمة الَّتي أردْتُها توطئةً لكِتابٍ عن “السِّيرة الذَّاتيَّة”، إلى ضَرْبٍ آخَرَ مِنَ السِّيرة الذَّاتيَّة! وهذا صحيح؛ فمعظم ما نكتبه، لوْ تَدَبَّرْناه، موصول العُرَى بـ“أحوال أَنْفُسِنا”، إذا استعَنَّا بِعِبَارة المستشرق كارل بروكلمان، ومشدودٌ إلى “السِّيرة الذَّاتيَّة” بِأَمْتَنِ الوشائج،إذا اصطنعْنا كَلِمًا يرتفع إلى “نظريَّة الأنواع الأدبيَّة”.وسواءٌ أردْتُ الأُولى أَمِ الأُخرى، فعسَى أن تُؤَدِّي فُصُول هذا الكِتاب بعض ما ابتغيْتُه مِنْ هذا “النَّوْع الأدبيّ”. على أنَّني لا أَجِدُ كَلِمةً تُؤَدِّي عنِّي بعض ما أُحِسُّه تُجاه “أدب السِّيرة”، هي أبلغ وأَوْجَز مِنْ كَلِمةٍ قالها إحسان عبَّاس في مُقَدِّمة كِتابه فنّ السِّيرة، دَلَّتْ على مِقْدار حُبِّه لهذا الفنّ، وأراها تَدُلُّ، كذلك، على موقع هذا الفنِّ في عَقْلي وقَلْبي ووِجداني.
قال العلَّامة الجليل:
فوراءَ هذه الفُصُول الَّتي كَتَبْتُها رغبةٌ ذاتيَّةٌ مُخْلِصةٌ في أنْ أَعْرِض موضوعًا أَحْبَبْتُهُ وعِشْتُ في تجارِب أصحابه مُدَّةً مِنَ الزَّمن
وأنا لا أُخْلِي نَفْسي مِنْ هذه “الرَّغبة الذَّاتيَّة”، ولا مِنْ ذلك “الحُبِّ القديم” الَّذي استولَى عليَّ، وكانتْ فُصُول هذا الكِتاب “عَلَامةً” على هذه الرَّغبة وذلك الحُبّ، تَخَيَّرْتُها مِمَّا أذعْتُه في الصِّحافة، وأَعْمَلْتُ القَلَمَ في هذه الفُصُول، مَرَّةً أُخرى، تحبيرًا وتحريرًا وتهذيبًا، ولاءَمْتُ فيما بينها، حتَّى استوتْ كِتابًا. وفي النِّيَّةِ – إنْ شاء الله تعالى – أنْ أُخْرِجَ كِتابًا آخَرَ، لَعَلِّي أدعوه “السِّيرتان”، أُثْبِتُ فيه فُصُولًا أُخرى ضاقَ دُونَها هذا الكِتاب، مِنْها ما كان في “السِّيرة الذَّاتيَّة”، ومِنْها ما كان في “السِّيرة الموضوعيَّة”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقدِّمة كتابٍ سيصدر قريبًا عنوانه “عَبَروا النَّهر مرَّتين، قراءات في السِّيرة الذَّاتيَّة”.