هناك مثل ياباني يقول (من يقر بجهله يظهره مرة واحدة و من يخفيه يظهره عدة مرات)..
لاشيء يقود الكون منذ الأزل قدر الاستنارة بعلوم و خبرات.. و لاشيء يطمس سراج النور في أي عالم قدر الجهل واللامعرفة.. المعرفة بأطيافها اللانهائية نور يوقد فلا يخبو ضوؤه والجهل بعتمته وغياهبه ظلام أعمى يبتلع كل من يسكنه كثقب مجرة عملاق لنجم مات بعد أن كان حيا..
لهذا دعت كل الحضارات و الثقافات على مر التاريخ إلى العلم.. و لاتوجد أمة مهما بلغ جهلها إلا وظهر فيها من حمل مشعلا للمعرفة ومنهاجا للوعي بطريقة أو بأخرى.. فحضارة الفراعنة تلألأت و ازدهرت تحت قبة علوم البناء والطب وفنون الزراعة وغيرها.. وحضارة الاغريق دامت و تمجدت بفضل مفكريها و فلاسفتها ونظرياتهم نحو الكون و الحياة وأطبائهم و بنائيهم وقادتهم العسكريين أيضا.. و حضارة الصين القديمة قامت على الإبداع العسكري و المعماري فكان نتاج هذه الحضارات التي تمخضت عن عجائب الدنيا مثل الأهرامات وسور الصين العظيم..
مع اختلافنا أو اتفاقنا على الفكر الذي انتهجته تلك الحضارات إلا أن الثابت عبر العصور أن الأمم تقوم على أكتاف مارد التعلم وتحمل على جناح طائر الوعي وتستقيم على متن سفينة المعرفة و تنجو فتصل إلى مرافئ البقاء و الاستمرارية عبر مياه محيط الإبداع و الاختراع..
يغلف كل ذلك الإدراك بأهمية التعلم شرنقة من الخلق القويم بعدد من محاسن الصفات.. فالمعرفة تطلق العقل من القيود و الحرية المطلقة فساد مطلق لايحبس فسادها سوى سياج من حسن الخلق يضرب على أسوارها هنا أو هناك..
و حضارة الإسلام و ما أدراك ما حضارة الإسلام طافت كمركبة فضاء بين مجرات الحضارات تطلب العلم من نجم حضارة بادت و كوكب دولة حاضرة.. أخذوا و ترجموا واغترفوا حتى تشبعوا ثم بحثوا و فندوا و كتبوا فأبدعوا وتميزوا..
لكن سلاحهم الأشهر في رحلة الاغتراف الدائم هذه كان وعيهم بأن لديهم ثوابت و كل معلومة مفردة لاتمرر على ثقافتهم إلا إن عرضوها على هذه الثوابت من قرآن و سنة و محصوها.. و من ثم أضافوا عليها بعد تصفيتها من شوائب المعتقد وإبقائها صافية على شاطيء العلم دون المساس بالمعتقد..
لهذا سادوا وتزعموا و انطلقوا ولم يتركوا دينا يؤمنون به و لاكتابا يلتزمون بنهجه..
أما اليوم… فالتعلم و الاغتراف من العلوم لايتبع فكرة الأخذ بمغرفة التمحيص بل بمضخة الاقتباس بلا تفنيد و لانقد.. فنجد مع الاهتمام بعلوم التطبيق و الإبداع الموجهة للاختراع وإعمار الأرض.. شبق عجيب ولهاث معيب بعلوم أخرى تحت شعار التطور والازدهار.. فظهرت علوم الطاقة الكونية و تجديدها ودهاليز الحب الكوني اللامحدود و برامج قياس ذبذبات المشاعر والعلاج الروحاني العجيب الذي لايعلم ماهية الروح التي استند عليها لبث ذاك العلاج.. علوم جديدة وربما قديمة عند أقوامها لكنها جديدة على حضارة المسلمين حيث لم يسودوا الأرض يوما كونهم قد ازدهروا في علوم الطاقة الايجابية أو تجديد الحب اللامحدود.. وكذلك الحضارة الغربية لم نسمع في سراديبها هكذا هرطقة خلال القرون الماضية و التي شقت فيها أنجمها طريقا نحو المجد التقني و الحضاري.. بل حتى حضارات الشرق القديمة لاتركز على هذه الخوارقيات من المفاهيم المتعلقة بالوحدة مع الإله و مد جسور هوائية للاتصال به.. بل قامت تلك الحضارات بناء على البحث و العمل و التفكير المنطقي فأفرزت ما أفرزت من كنوز حضارية..
الآن فقط ظهرت نواميس جنون التفكير الخوارقي بتحليل مكنونات الروح و تفسير غموض النفس وتأطير أسرار الحياة بأطر عجيبة جاء بها بعض الداعين إليها من كل مكان و منهم من أبناء هذا المجتمع حيث تقلدوا سيوفا من خشب يطوحون بها في وجوه العامة والخاصة و يدعون أن لديهم أكاسير الحياة والسعادة بل و يصفون للسذج طريقة الاتصال بإله الكون و حلول الصفاء النفسي بعدد من الطرق و الآليات التي تقف وراءها معتقدات مستقاة من مسلمات روحية من المعين الديني التابع للشرق الأقصى وفكر الفلسفة الاغريقية و غيرها من الفلسفات و الروحانيات.. تبتعد اكثر مما تقترب عن أطر المذهب الإسلامي في فكره نحو الله و الوجود و الكون..
و هذا هو بيت القصيد.. هذه العلوم وفكرها لانرفضها بالكامل.،قد نتفق مع بعض فوائدها و نتائجها لكن لايقبل مسلم ذو نهى أن يقال له اسحب نفسا عميقا واغمض عينك تجد نفسك في حالة صلة مع الإله!! و لا يقبل عاقل لديه ذرة من عقيدة أن يدعى أمامه بأن هناك حب كوني يطوف بين الغياهب وعليك أن تلتقطه حتى تصل إلى حقيقة حب الإله!! ..
لسنا ضد التجديد و الأخذ و الاقتباس من كل علوم الأرض طالما فيها نفع و فائدة بشرط أن تغربل عبر الثوابت لتفند.. أما و أن تترك هكذا بشوائبها فتدخل على عقول العامة و تختمر فتذهب الوعي و تسلب التمييز فيتيه المسلمون في متاهات الفكر الخوارقي في وقت نحن في أمس الحاجة إلى إعمال العقل فهذا تراجع و تخلف لا تقدم ورقي.. فبدلا من النبش في قبور الفكر الفلسفي للحضارات البائدة ليتنا ننظر في حالة التأمل عند رسول الله في غار حراء و كيف كان يصل إلى درجة من التدبر و اللحمة مع عظمة خالق هذا الكون… فما الحاجة إلى طرق و آليات للاتصال مع الله وهذا الدين قد فند طرق الاتصال و التواصل مع الخالق..
حتى الحب وقوانينه و تحليله لايحتاج إلى النظرة السفسطائية المغلفة بكثير من المعتقدات الفاسدة.. فالحب اللامشروط موجود بالفعل بين دفتي هذه الحضارة و كم من آية دلت على أهمية السلام القلبي و النفسي و كم من حديث وجه إلى محبة كل أطراف الحياة و عناصرها بعيدا عن الحب المسبب و المادي…
فليتشدق من يتشدق بما لديه من فكر وعلينا أن نفكر و نفكر.. تفكيرا ناقدا يمحص الفكر فيبقي الحق و ينفي الخبث.. و بهذا نرتقي..
وهج..
إني أفكر.. إني أحلل..
أنتقي..
لا أشري من الشهد
إلا الصافيا
مهما أتاني من رحيق مسبق..
أمعن التدقيق غير مباليا
ما كل مقتبس صار عودا معتق..
ولا كل طب من سوانا عافية..
لا تبقى إمعة تسير وراء الناعق..
لديك عقل فاعمل العقل ..
ثانية
بارك الله فيك ونفع بعلمك.
وقد اختصرتي الكثير حينما قلتي:
(أما اليوم… فالتعلم و الاغتراف من العلوم لايتبع فكرة الأخذ بمغرفة التمحيص بل بمضخة الاقتباس بلا تفنيد و لانقد..).