“حِينَ تَخَرَّجْتُ مِنَ الابتدائيَّة كانت سنة
التخرج هي نَفْسها سنة اقتحام جهيمان العتيبيّ
للحرم 1400هـ، وسنة تَخَرُّجي مِنَ الجامعة كان
اجتياح القُوَّات العراقيَّة للكويت 1990م،
وحِينَ انتهيْتُ مِنَ الماجستير كانَتْ أحداث سبتمبر
في نَفْس سنة التَّخَرُّج (…)
وحِين انتهيْت مِنَ الدَّكتوراه
سَقَطَ نظام حُسْني مبارك في مصر!“
أحمد العرفج
يَجْمَعُني وأحمد العرفج جيل واحد وثقافة واحدة، لكنَّه اتَّسَعَ له مِنْ مَدَارِك العَيْش ما لمْ يَتَّسِعْ لي مِنْه إلَّا مِقْدارٌ هَيِّنٌ يسير؛ وُلِدَ في بريدة عام 1385هـ –وأنا وُلِدْتُ قَبْلَه بعام! – وتَحَوَّلَ إلى المدينة المنوَّرة صغيرًا، وعاش في غير ناحيةٍمِنْ بلادنا؛ حِينًا في الرِّياض، وحِينًا آخَرَ في المدينة المنوَّرة، وطابتْ له الإقامة،مُدَدًا مختلفةً، في جُدَّة، والرَّسّ، وعُنَيْزة، والدَّمام ، ومكَّة المكرَّمة، واختلف إلى غير مدرسةٍ وغير معهد. وأنا لمْ أبرَحْ جُدَّة، حيث وُلِدْتُ ودَرَجْتُ ونَشَأْتُ، إلَّا حِينًا مِنَ الزَّمان أمضيْتُه في الرِّياض، طلبًا للعِلْم، ومع ذلك فبيني وبين أحمد ما نشترك فيه؛ عانيتُ اليُتْمَ مثلما عاناه، وقاسَيْتُ ألوانًا مِنَ التَّأخُّر في الدِّراسة تُشْبِه ما قاساه، رَسبتُ في الصَّفّ الأوَّل الابتدائيّ، والصَّفّ الرَّابع، وكابَدْتُ مِنْ أمر مادَّتَيِ “الحِسَاب” و”الجَبْر” ما الله به عليم، حتَّى إذا أَعدت الدِّراسة، في الصَّفّ الرَّابع الابتدائيّ، انقلبْتُ، بَعْدئذٍ، تلميذًا “نابهاً “، وقدْ طالما غَبَرَ عليَّ زمانٌ ذُقْتُ فيه طَعْم “التَّنبله “ وبَلَوْتُها، كما ذاقها أحمد العرفج وبَلَاها.
اختار أحمد العرفج اللُّغة العربيَّة تخصُّصًا لدراسته في الجامعة، كما اخترْتُ، وجَمَعَ عَزْمَه على أن يواصل دراسته العالية، كما عَزَمْتُ، حتَّى إذا أَتَمَّ “الماجستير”، طار إلى بريطانيَة واختار الإعلام تخصُّصًا له في “الدَّكتوراه”،واكتفيت أنا، مِنَ الشَّهادات العالية، بدرجة “الماجستير”، ولمْ أشأْ أنْ أُكْمِلَ دراستي فأظفر بالشَّهادة الرَّفيعة العالية = وأَحَبَّ أحمد النَّاسَ وبالَغَ في الاجتماع بهم ومُخالطتهم ، وأَحببْتُهم كما أَحَبَّهم، غير أنَّني بالغتُ في العُزْلةعنهم والانطواء دُونَهم، ولمْ أُخالطهم إلَّا على قدر، واستهوَتْه “الشهره “،واستهواني “الخُمُول”، وقَبْلَ ذلك وبَعْدَهُ جَمَعَ بيننا الجيل والنَّشأة والتَّعليم والثَّقافة.
شُغِفَ أحمد العرفج بالعنوانات المسجوعة، وبالَغَ فيها حتَّى لكنه اختُصَّ بهافصارَتْ عَلَمًا عليه، فلا نقرأ له فَصْلًا يُذيعه في الصِّحافة، ولا كِتابًا يَدْفع به إلى المكتبات، إلَّا أَجْراه على تركيبٍ مزدوجٍ مسجوع، يلوي له كلمات اللُّغة وعِبَارَاتها متى حَقَّقَ له ما ابتغاه مِنَ السَّجْع والازدواج، وكأنَّما أراد أحمد أن يَدُلَّ بذلك على أسلوبه السَّاخر الَّذي عُرِفَ به، منذ اتَّخَذَ السُّخرية أسلوبًا له ومنهجًا، وما كان، مِنْ قَبْلُ، ساخِرًا هازئًا، وعساه كان جادًّا يَغْلُو في الجِدّ والتَّحفُّظ ويُبالغ،وتجلو لنا فُصُوله الَّتي أذاعها في الصِّحافة، قديمًا، جِدَّه وتَحَفُّظه واحتياطه،ولَعَلَه لو وَالَى الكتابة على أسلوبه ذلك القديم لَمَلَّه القُرَّاء، وما حَقَّقَ شيئًا مِنَ “الشُّهرة” الَّتي عَمِلَ لها نهارَه وسَهِرَ في طلبها ليلَه.
رأَحَبَّ أحمد السُّخرية وتَفَنَّنَ فيها، يسخر مِنْ كُلِّ شيء، وأُوتِيَ قُوَّةً على السُّخْر والإضحاك، وكان لِزَامًا عليه إضحاك النَّاس ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. أضحكهم، أوَّلًا، في الصِّحافة، حتَّى إذا أُتِيحَ له الاتِّصال بـ“مواقع التَّواصُل”، وصار مِنَ المُجَلِّين فيها، اتَّسَع عارفوه مِنْ مُصْطَنِعي تلك المواقع،فإذا تَسَنَّى له أن يَبْلُغَ النَّاس في بُيُوتهم وأنديتهم، فلا بأس في ذلك، ولْتَكُنْ أقنية الفضاء وسيلته الَّتي يُشرف بها عليهم، وظَنَّ نَفَرٌ مِنَ مُحِبِّيه و مبغضيه أنْ سيكون نَفَسُ أحمد قصيرًا، فلا يستطيع الرَّكْض في برنامجه الفضائيّ،ولكنَّه ثَبَتَ له، وأثبتَ قُدْرته على أن يأتي بالجديد، وأن يَصِلَ إلى غايته دُونَ أن يتكلَّفَ لها مِنْ ألوان الجِدِّ والصَّرامة ما يَقْطع ما بينه وبين النَّاس، و احتمل، مِنْ أجل ذلك، ألوانًا مِنَ القَدْح والسُّخرية الفجَّة، دُونَ أن يَنْزِلَ عمَّا اختاره سبيلًا له، وكان في معظم أحواله ساخِرًا ضاحكًا، يَصْنَع لكلِّ حادثة ما يُلائمها مِنْ ألوان التَّعبير، ويُؤَدِّي للنَّاس ما يرجونه مِنْه، ويبلغ مِنْ “تثقيف” النَّاس، ما تَأَخَّرَ عنه العاملون مِنَ الصَّفوة المختارة مِنْ أساتذة الجامعة والمثقَّفين والأدباء، ومهما أردْتَ فلن يَخْلُوَ “جِرَاب” أحمد مِنْ فائدةٍ في الأدب، أو التَّاريخ، أو المعرفة، وإنْأَدَّاها إلينا ضاحكًا مستبشِرًا.
ونُقَّادُ أحمد كُثْرٌ، لا يُستطاع عَدُّهُم، ولهم في نَقْده والإزراء به أقوالٌ مختلفةٌ،أُوتِيَ قُدْرَةً وصَبْرًا على احتمال ما كبر مِنْها وما صغر، بلْ إنَّه لَيَحْتَفِي بِنُقَّادِهِ،ويُشْفِقُ عليه مُحِبُّوه أنْ صار “عِرْضه” مستباحًا، فإذا أردْتَ إحصاء ما أخذوه على أحمد، وَقَفْتَ على آراءٍ مختلفاتٍ: فالرَّجُل، عندهم، مولَعٌ بالشُهرة مشغوفٌ بها، يتكلَّف إضحاك النَّاس لأدْنَى مناسَبةٍ، ويُقَلِّلُ مِنْ شأْنه إذْ يضحك ويُضْحِك، ويَنْفَسُ عليه “الكسلانون” – وما أكثرَهُمْ – أنْ مَنَحَه الله – تبارك وتعالَى – كُلَّ هذا الوقت؛ يقرأ فيه، ويلتقي أصدقاءَه، ويُخالِط النَّاس، ويكتب في غير صحيفةٍ ورقية وإلكترونيَّةٍ، حتَّى إذا قرأوا فُصُوله، هنا وهناك، إذا بهم يَرَوْنَه في هذا الموقع أوْ ذاك مِنْ مواقع “التَّواصُل الاجتماعيّ”، فإذا وافاهم مساء الأربعاء، مِنْ كُلِّ أسبوع، أَطَلَّ عليهم في برنامجه الذَّائع “هلا بالعرفج“،إلى آخِر ما أعرفه وما لا أعرفه من شؤون أحمد وشُجُونه! وكأنَّما الأصل في ثقافة النَّاس هو “التَّحَفُّظ” و”التَّزَمُّت” و”التثاقل“، أمَّا الضَّحِك فمنبوذٌ صاحِبُه فوقَ كُلِّ أرضٍ وتحتَ كُلِّ سماء، وليس ذلك خَصِيصةً فينا، إنَّما هي “ثقافة“توشك أنْ تُصبح “كونيَّةً”، تَسْنُدُها أقوالٌ مأثورةٌ، أَعْلَى فيها أصحابُها “الحُزْنَ“ على “الفَرَح”، و الشعر “المتزمِّتَ الكئيب“ على “الشعر “ الفَكِهِ السَّاخِر”. وللرِّوائيّ والفيلسوف الإيطاليّ أمبرتو إيكو كلامٌ عميق أدار عليه روايته اسْم الوردة، خُلَاصَتُهُ أنَّ “الثَّقافة” الَّتي احتفظَتْ بـ”مأساة“ أرسطو،هي الَّتي أضاعتْ “ملهاته“، حتَّى إذا أضاعتْها بالَغَتْ في فَرْض ألوان “التَّحَفُّظ” و”التَّزَمُّت” على النَّاس، وأَزْرَتْ بـ”الضحك“ و”الفُكاهة”، حتَّى اتَّقاهما النَّاس وصَدُّوا عنهما، فإذا أَقْبَلْتَ على أحمد الضَّاحِك السَّاخِر سَلَقَكَ مُحِبُّوك – قَبْلَ شانئيكَ – بألسنة حِدَاد، وأقبلوا عليكَ باللَّوْم، واستصغروك، وقدْ ظَنُّوكَ، مِنْ قَبْلُ، كبيرًا، لا لِجُرْمٍ اقترفْتَه، إلَّا لأنَّكَ نَوَّهْتَ بفضْل أحمد ومنزلته في ثقافتنا! وإنِّي لَعَلَى يقينٍ مِنْ أنَّ نَفَرًا مِنَ القُرَّاء سَيَرَوْن في هذا الفَصْل حَطًّا مِنْ شأْن “الثَّقافة الرَّفيعة”، وتَدَهْوُرًا ينبغي تَدَارُكُه، لا لشيء إلَّا لأنَّني أنشأْتُه في شأْن مِنْ شؤون أحمد العرفج؛ في ضَحِكِه وسُخْرِهِ وعَبَثِه!
قُلْتُ، مِنْ قَبْلُ: إنَّ أحمد العرفج يُثَقِّفُ بالضَّحك، إذا أَذَاعَ فَصْلًا في الصِّحافة، أوْ أَقْبَلَ على جمهوره في التِّلفاز، وقُلْتُ، كذلك: إنَّ بيني وبينه مَشَابِهَ،آكَدُها أنَّني وإيَّاه مِنْ جِيلٍ واحدٍ، مهما اختلَفَتْ بيننا سُبُل الحياة، وقَوِيَ هذا التَّشابُه في كِتابه البديع المُهْمَل مِنْ ذكريات طالبٍ تَنْبَل: سِيرةٌ دراسيَّة مِنَ الابتدائيَّة إلى الدَّكتوريَّة!
ولا شَكَّ عندي أنَّ عنوان الكِتاب سَيُعْرِض عنه قُرَّاءٌ وقُرَّاءٌ، وسيحكمون عليه مِنْ عنوانه، ما دامَ الكِتابُ يُقْرَأُ مِنْ عنوانه = لكنَّني قرأت الكِتابَ، ولَمَّا ظَهَرْتُ على صفحاته الأولى أدركْتُ أنَّ أحمد انتقَى مِنْ حياته العريضة الواسعة، ما اتَّصَلَ بتعليمه منذ “الابتدائيَّة” إلى “الدَّكتوريَّة”، وأنَّه قَيَّدَ، دُونَ أن يَقْصِد إلى ذلك، حياة جِيلٍ، أنا واحدٌ مِنْ أبنائه، ويكفيني هذا لِأُحِبَّ الكِتابَ، ويكفيني ذلك لِأُقْبِلَ على أحمد، وقدْ طالما تَحَدَّثْتُ، كما تَحَدَّثَ غيري، مِنْ أولئك الَّذين وُلِدُوا في عَشْر الثَّمانين، مِنَ القرن الهجريّ الماضي (عَشْر السِّتِّين مِنَ القرن الميلاديّ العشرين) = عنْ عهد أدركنا فيه “فوانيس” الإنارة في الشَّوارع، وصهاريج الماء تَجُرُّها الحمير، والشَّوارع والأزِقَّة التُّرابيَّة، حتَّى إذا انتصَفَ عقد التِّسعين للهجرة، أَحْسَسْنا أنَّ شيئًا في بلادنا قدْ تَغَيَّرَ: حَفَرَ العُمَّال الكوريُّون الشَّوارع،وزُفِّتَتِ الطُّرُق، وعَرَفْنا التِّلفاز الملون، والفيديو، ورأيْنا بُيُوتًا تُهْدَم، وطُرُقًا تُوَسَّع،وشاعت في ألسنة النَّاس كلمة “الهَدَد”، وأَخَذَ المحظوظون مِمَّنْ هُدِّمَتْ بيوتهم،ونالوا تعويضًا مُجْزِيًا، يتحدَّثون عن دُورٍ جديدةٍ تُدْعَى “الفِلَل”، ومُفْرَدُها “فِلَّة”،وصارَ البُسَطاء الطَّيِّبون يحلمون بـ“فِلَّة”، تَعْتَنِق الأشجارُ سُورَها، وأنْ سيرتقون فيدركون “الطَّبقات” النَّاعمة المُرَفَّهة، ويرتعون مِثْلَما رَتَعَ أولئك في عَيْشٍ ناعِمٍ رَخِيّ!
إذا كُنْتَ مِنْ ذلك الجِيل فستعرف تلك المفردات، وستشُمُّ تلك الرَّائحة الَّتي شارَفَ أحمد شيئاً واحدًا مِنْها، وهو “التَّعليم”، وستعْرِف، كما عَرَفْتُ، ما أَدَّتْه إلينا هذه السِّيرة “الضَّاحكة” “الباكية” مِنْ ألوان اللَّذَّة و المتاع.
وعساك لوْ قرأت كِتاب المُهْمَل مِنْ ذكريات طالبٍ تَنْبَل بتمامه، ستقول:إنَّني عِشْتُ مِثْل هذه الحياة الَّتي عاشها أحمد، و التحقت بمدارسَ تُشبه تلك الَّتي التحق بها أحمد، ويوشك أن يكون مُعَلِّمونا هُمْ مُعَلِّمي أحمد، والحارَة والشَّارع والزُّقَاق، هي حارَة أحمد والشَّارع الَّذي عَبَرَه والزُّقَاق الَّذي دَرَجَ فيه! وكأنَّما أنشأَ أحمدُ ما لوْ أُتِيحَ لنا لأنشأْناه، ولَضَحِكَ القُرَّاء وبَكَوْا حِين يَظْهَرُون على ما كَتَبْنا، مِثْلما أضْحَكَنا أحمد وأبكانا.
وليس في ذلك موضعٌ للغرابة ولا الدَّهَش؛ ذلك أنَّ “السِّيرة الذَّاتيَّة”، على تَنَوُّعها واختلافها، نُحِبُّها ونُقْبِل عليها ما رَأْينا فيها شيئًا مِنْ أَنْفُسِنا، وإنَّها كالقصيدة، والقصَّة، والرِّواية، تَصِلُنا بها شؤون، بعضُها الفنّ، وبعضُها التجرب، ونُحِسُّها إذا أصابتنا “عَدْواها”؛ تلك الَّتي لها أَصْلٌ في الرُّومنطيقيَّة، فنتلقَّى هذه السِّيرة أوْ تلك مُحْتَفِين بها، متى أورثَتْنا تلك “العَدْوَى” الَّتي تُصِيبنا، وبعض ذلك أَدَّاه إلينا أحمد في سِيرته “العِلْمِيَّة” هذه، حتَّى لَنَحْسِبُ أنَّها “سِيرة” كُلِّ واحدٍ مِنَّا، لولا اختلاف الأسماء والأمكنة، وليس له أن يُخالِف عنْ ذلك، ما أَلَّفَتْ بين النَّاس هذه الجُملة المؤلَّفة كلماتها مِنْ أفعال: “وُلِدَ وعاشَ وماتَ”!
يقول النَّاقد الفرنسيّ جورج ماي في كِتابه السِّيرة الذَّاتيَّة:
فما أكثرَ الآباءَ المفرِّطين في جفائهم! وما أكثرَ الأُمَّهاتِ المفرِّطاتِ في حبهن! والمدارسَ والسجون! وتيقظ الغرائز! وما أكثرَ ضحايا اللؤم البشري، أو الظُّلم الاجتماعيّ، أو العِشرة السيئة! على أنَّ في التجربة من المفاجآت ما يسُرنا أحيانًا
وما قاله النَّاقد الفرنسيّ حَقٌّ لا رَيْبَ فيه، ولولا أنَّه حَقٌّ ما مِلْنا إلى كُتُب السِّيَر الذَّاتيَّة، وإنْ تَشابَهَتْ في المبنى والمعنى، ولن يستطيع أحمد العرفج، ولا غيره، أن يُنْشِئ سيرةً ذاتيَّةً تخالِف ما عاشه ملايين مِنَ البَشَر، وكأنَّنا، إذْ نُقْبِلعلى سِيرته، نُشاركه حياة نَحْسَبُها سَمْحة، مهما كانَتْ قاسيةً مؤلمة، وما يُدْرِينا فَلَعَلَّنا نُوْهِم أَنْفُسَنا فنتخيَّل ما فيها مِنْ إسماح، وننخدع لها مختارين طائعين.
ليس في سِيرة أحمد العرفج، في الأعَمِّ الأغلب، ما تَنْبُو به حياة أَحَدٍ مِنْ جِيله. ذاق اليُتْم كما ذاقه آخَرون، ورسبُوا وأعادوا السَّنة كما رَسَبَ أحمد وأعاد،وتَلَقَّى حياته مِنَ التَّعليم الابتدائيّ إلى الجامعيّ، على وَفْق “ثقافةٍ” حُمِلَ النَّاس عليها حَمْلًا، وكانتْ حياتُه – وحياة جِيله – يَحُدُّهما عَهْدان: ما قَبْلَ عام 1400هـ،وما بَعْدَه، هكذا استذكر أحمد، وهكذا يستذكر كُلُّ مَنْ عاشَ تلك الحِقْبة، وكانَتْ “جريمة احتلال الحرم المكِّيّ الشَّريف” فيصلًا بين “قرنين” و“عصرين”و”ثقافَتَيْن”، نستذكر ما قَبْلَ عام 1400هـ بألوانٍ مِنَ الحنين، وما بَعْدَه بِيأْسٍ استولَى علينا، صَنَعَتْه على عينها “ثقافة” كَرِهَتِ الحياةَ، وأرادَتْنا على أنْ نُظاهِرَها في الكراهِيَة. والحَقُّ أنَّ أحمد فاجَأَني بجديده، إذْ لمْ أَكُنْ أَعْلَم أنَّ في مدينة جُدَّة – بِضَمِّ الجيم! – مَعْهدًا عِلْمِيًّا – يرتفع نَسَبُه إلى جامعة الإمام محمَّد بن سُعُود الإسلاميَّة – لولا أنَّه اختلفَ إليه، في المُدَّة الَّتي تَدَيَّرَ فيها عروس البحر الأحمر – لكنَّ ذلك المعهد لمْ يَكُنْ لِيُشْبِه أشقَّاءَه قُوَّةَ أَثَرٍ وسُلطانًا على النَّاس، كتلك المعاهد الَّتي اختلَفَ أحمد إلى بعضها، في عُنَيْزة وما إليها،ويَلُوح لي أنَّه أصابَه شيءٌ مِنْ أَثَر تلك “الثَّقافة”، بفعل البيئة والأُسرة، يَدُلُّنا على ذلك أنَّه تَخَيَّرَ “المعهد العِلْمِيّ” دُون سِواه مِنْ معاهد التَّعليم ومدارسه، في المدينة المنوَّرة، وجُدَّة، وعُنَيْزة، والدَّمَّام، فلمَّا استوفَى التَّعليم العامَّ، رأيناه طالبًا في جامعة الإمام، بِبُرَيْدة أوَّلًا، ثُمَّ في الجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنوَّرة،وكان بِوُسْعِهِ، وهو جَوَّاب أمكنة، أن يُتِمَّ تعليمه في جامعةٍ مدنيَّةٍ؛ في الرِّياض،أوْ جُدَّة، أو الدَّمَّام! لكنَّها “الثَّقافة”، تلك الَّتي سادَتْ في ذلك العهد، وحَمَلَتِ النَّاس على الأَخْذ بها دُونَ سِوَاها، ولمْ يَشُذَّ أحمد عنهم، وكان واحدًا مِنْ أولئك النَّاس.
أَشْبَهَتْ حياة أحمد العرفج حياة سِوَاه مِنْ أبناء “الجِيل”، وخالَفَهم في “الوسيلة”؛ تَكَلَّفَ كوكبةٌ مِنْهم الجِدَّ والوَقَار، وألزموا أَنْفُسَهم “التَّحَفُّظ”و”الاحتياط” و”التَّزَمُّت” – لَمَّا كَبِرُوا في السِّنّ والوظيفة والمنصب – أَمَّا أحمد فأعْرَضَ عنْ ذلك، وأَثْبَتَ ما كابَدَه في حياته – مهما كَبِرَ في السِّنِّ والوظيفة والمنصب = فما كان “نابغةً”، وإنْ أسماه أحد أشياخه “أحمد بن حنبل”! بلْ إنَّه لَيَسُوق ألوان “المديح” و”الإطراء” في غير قليلٍ مِنَ السُّخْر والفُكاهة،وأَظْهَرَ لنا ما لوِ اتَّصَلَ بعضُه بغير واحدٍ مِنْ جِيله = لكان، عندهم، شأْنًا مُكَتَّمًامسكوتًا عنه، ما داموا أَحَاطوا حياتهم بـ”التَّحَفُّظ” و”الاحتياط” و”التَّزَمُّت”.وكُلُّ ما يَمُرُّ بخاطرك مِنْ سِيَر “الطُّفُولة” كان أحمد على خِلَافه، بلْ إنَّه لَيختصر حياته في التَّعليم بهذا الكلمة الصَّادمة المُؤْذِيَة: “طالب تنبل”! – والتَّنْبَلُ:الكَسُول مِنَ النَّاس – فإذا مَضَيْتَ في السِّيرة تَبَسَّطَ الكاتب في شَرْح تفاصيل تلك “التَّنْبَلة”: كان “غَبِيًّا” في بعض المواضع، “بَلِيدًا” في بعض سنوات الدِّراسة، على أنَّ هذه الصِّفات الَّتي اتَّصَفَ بها، يلقانا ما يناقِضُها: كان أحمد جريئًا، مِقْدَامًا، عِصَامِيًّا، أَلُوفًا. وعَسَاهُ، اليَوْمَ، يَشْكُر تلك الأحوال الَّتي وَصَلَتْه بـ“المعهد العِلْمِيّ”، و”جامعة الإمام”، و“الجامعة الإسلاميَّة”، رُغْمَ النَّقْد الَّذي صَبَّه على ذلك المعهد وتَيْنِكَ الجامعتين، ويَكْفيه أنْ عَرَفَ، مُكْرَهًا أوْ راضَيًا،ألوانًا مِنَ الثَّقافة، وصُنُوفًا مِنَ الكُتُب، لمْ يَتَيَسَّرْ لكثيرٍ مِنْ أبناء جِيله الظُّهُور عليها، حتَّى إذا أنشأَ أحمد فَصْلًا، أوْ جَعَلَ يَتَحَدَّث، رأيتَ أَثَرَ “الكُتُب الصَّفراء”المَجْفُوَّة على لِسانه إذا تَكَلَّمَ، وعلى قَلَمه إذا كَتَبَ.
سأعود، مَرَّةً أُخرى، إلى “السُّخْر”، وأُنَزِّل ذلك على سِيرة أحمد.
وأعودُ فأُذَكِّر، مِنْ جديدٍ، أنْ لا لَوْمَ على أحمد العرفج إنْ هو اصطنعَ“السُّخْر” و”الفُكاهة” آلةً له، وليس لنا أنْ نستكبر فَنَجْفُوَ هذا الضَّرْب مِنَ السُّلُوك، ولا ذلك اللَّوْن مِنَ “الأدب”، فإذا عَدَدْناه “فَكِهًا” “ساخِرًا”، فليس يُنْزِل ذلك مِنْ قَدْره وقيمته، ما لمْ يَتَّخِذْهما ذريعة ينال بهما مِنْ أقدار النَّاس، ووسيلةً للحَطِّ مِنْ هذا أوْ ذاك، لسببٍ يَتَّصِلُ باللَّوْن أو العِرْق أو الدِّين والمذهب والطَّائفة،على أنَّ أحمد كأنَّما أراد أن يُذْكِرَ النَّاس بالتَّبَسُّط والانشراح، وأن يُجَدِّدوا العهد بـ“ثقافة الضَّحِك”، وكان قادرًا، لوْ أرادَ، أن يُنْشِئَ “سِيرةً” باكيةً،مُتَحَفِّظةً، بَطَلُها طِفْلٌ يتيمٌ، ولا جَرَمَ أنَّه سَيَصُدُّنا عمَّا أنشأَه ما سنسفحه مِنْ ألوان البكاء والنُّوَاح، تَعْتَرِضُه عَقَبَةٌ كُلَّما جازَ عَقَبَةً، حتَّى ظَفرَ، بِأَخَرَةٍ، بدرجة “الدَّكتوريَّة” فلمْ يَنَلْها إلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ!
كان بِوُسْع أحمد أن يَتَمَثَّلَ أخلاق “الخَوَاصّ”، فلا يَتَبَسَّطُ في حديثه، ولا يُرْسِل نَفْسه على سَجِيَّتها، إلَّا إذا كان في “الحَضْرَة”، فإذا خالَطَ “العَوَامَّ” عادَ فَتَكَلَّفَ الوَقَار وأَظْهَرَه، وأَبْرَزَ لهم وَجْهًا عابِسًا، وكان رائده قول الأوَّل:
فِيَّ انْقِبَاضٌ وَحِشْمَةٌ فَإِذَا
لَاقَيْتُ أَهْلَ الوَفَاءِ وَالكَرَمِ
أَرْسَلْتُ نَفْسِي عَلَى سَجِيَّتِهَا
وَقُلْتُ مَا قُلْتُ غَيْرَ مُحْتَشِمِ
فإذا نَزَّلْنا كِتابه على شَرْط “أدب السِّيرة الذَّاتيَّة”، عَدَدْنا ما انطوَى عليه أَدْنَى إلى “الاعتراف”! وما ذلك إلَّا لأنَّ “ثقافة” التَّحَفُّظ والانقباض هَوَّنَتْ مِنْ شأْن “ثقافة” الضَّحِك والسُّخْر والفُكاهة، أوْ ولعل تلك “الثقافة“ رَأَتْ أنَّه ليس مِنَ “المُرُوءَة” أن تتبسط في وُجُوه “العَوَامّ”، وتُشِيع فيهم الفُكاهة والضَّحِك،فإذا أرسلَ أحمد – أوْ غيره – نَفْسه على سَجِيَّتها، إذا بنا نَعْتَدُّ ما كَتَبَه، إذا كان أديبًا كاتبًا، داخِلًا في “أدب الاعتراف”! وما باحَ الرَّجُل بما يَتَنَزَّه اللِّسان والقلم عنْ ذِكْرِهِ وما اعترفَ، إلَّا في ميزان “ثقافةٍ“ جديدةٍ لا تُمِتُّ إلى “ثقافة”العرب بِصِلَة، وكأنَّنا، متى اصطنعْنا تلك “الثَّقافة”، نَحْمِل الأدباءَ والكُتَّابَ على أن يكذبوا، حتَّى يُلائم ما ينشئونه تلك “الثَّقافة” الطَّارئة.
كان أحمد العرفج “صادقًا”، أوْ حَسْبُهُ أنَّه أَوْهَمَني بِصِدْقه، فَرُبَّما أنزلَتْه “النُّكتة” على مُقتضاها، فأذعَنَ لها، وأرخَى لِخَيَاله المبدِع العِنَان = وكان قريبًا، وكَفَانِي مِنْ قُرْبه أنَّه أَحْسَنَ التَّعبير عنْ جِيلٍ، تَهَيَّبَ أبناؤه كتابة “السِّيرة الذَّاتيَّة”، فجاءَ كِتاب المُهْمَل مِنْ سِيرة طالِبٍ تَنْبَل لِيُذْكِرَهُم بِحَقِّ التَّاريخ والأدب عليهم، أمَّا أنا فَحَسْبِي أنْ مَدَّ أحمد جِسْرًا ما بين نَفْسه ونَفْسي، وأنْ أَذْكَرَني يُتْمُه يُتْمِي، وتأخُّرُه في الدِّراسة تأخُّري، وأنَّه حَقَّقَ عندي ما قاله العَلَّامة إحسان عبَّاس في كاتِب السِّيرة الذَّاتيَّة الَّذي نُحِبُّه:
“وكاتِبُ السِّيرة الذَّاتيَّة قريبٌ إلى قلوبنا؛ لإنَّه إنَّما كَتَبَ تلك السِّيرة مِنْ أَجْل أن يُوْجِد رابطةً مَّا بيننا وبينه، وأن يُحَدِّثنا عنْ دخائل نَفْسه وتجارِب حياته، حديثًا يَلْقَى مِنَّا أُذُنًا واعية؛ لأنَّه يثير فينا رغبة في الكشف عن عالَمٍ نجهله، ويُوْقِفنا مِنْ صاحِبه موقف الأمين على أسراره وخباياه؛ وهذا شيء يبعث فينا الرِّضا، وقدْ يأسرنا فَيُحَوِّل أنظارنا عنْ نَقْد الضَّعيف والواهي في سَرْده، ويَحْمِلنا على أنْ نتجاوز له عن الكذب، ونتقبَّل أخطاءه بِرُوح الصَّديق“.
إبداع.. إذ جعلني أسرح وأمرح وأنزلق في بحور حياته والعرفج، وأعادني بما سطره إلى مسرح كبير من الذكريات لأيام الدراسة ومراحلها الحلوة كلها بحمد الله، وقد كنت من النبه أنافس أوائل الصفوف، يوم كنا نفترش الحنابل أرض فصولنا الدراسية وسبوات على الجدار وحبات الطباشير الجيرية، قبل ترفهنا بتلك المقاعد الخشبية البدائية، بل حتى التكييف بدائي وأجزم أن جله لا يعمل، في شهور صيف واقدة، وليّ ولي يوم جهيمان كثير الذكريات،إذ كنت في الصف الثاني بجامعة أم القرى، وقد تجولت حواري مكة القريبة من المسجد الحرام، وأصوات طلقات الرصاص تدوي بين منابرها والقباب، حينها سطر أهالي مكة ملحمة وتأريخ الولاء والوفاء للمملكة قيادة وشعباً، وسنظل بعون الله تعالى نبايع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، نبايعهم على السمع والطاعة في كل الأحوال، إذ القرآن دستورا ومنهجا،،
روعة السرد واستمتعت بالقراءة بلا ملل رغم طبعي الملول حالياً وبعض الاحداث عايشتها وعشتها وانا اقرأ الآن حبذا لو تحول لكتاب فنحن جيل الطيبين نحن للمس الورق فشكراً للمتعه التي عشتها دقائق معدودات .