أعرف الرياض منذ ما قبل الطفرة؛ فقد كانت معظم بيوتها بسيطة جدًا من الحجر والطين، وبعضها أسمنتية مع وجود الفيلات الحديثة والقصور في أحياء محدودة مثل: عليشة، والناصرية، والمربع، والملز.
ويكاد يكون نظام بناء البيوت الشعبية متشابه؛ كمساحة الغرف وتوزيع الفضاءات إضافة إلى صغر مساحة المساكن (١٥٠ – ٢٠٠ م٢ وأحيانًا أقل)، بل إن عمرانها لم يكن معقدًا، فمواد البناء من البيئة المحلية تقريبًا (الحجر والطين والقش، والجبس الأبيض). نموذج البناء كان عمليًا للغاية ويفي بالحاجة إذ كان يتم الإفادة من الرواشن العلوية والتمدد الرأسي، واستغلال السطوح للنوم وما تحت الأدراج كدورات للمياه، مع بقاء البيوت باردة صيفًا ودافئة شتاءً بسبب كمية الطين في تكوين البناء، وصغر فتحات التهوية.
الأهم من كل ذلك هو الأجواء الاجتماعية؛ فتلاصق البيوت حد من عزلة الجيران. احتكاكهم كان مستمرًا سواء كان إيجابيًا، وهو الغالب أو غير ذلك؛ فهم يرون بعضهم البعض ويتحدثون إلى بعضهم ويلتقون كثيرًا، بل ويسمعون ما يدور خلف الجدران حتى عندما ينامون في الأسطح المتلاصقة. كما كانت الدكاكين الصغيرة تنتشر داخل الحواري والأحياء قبل التنظيمات الحديثة، وكان البائع يعرف سكان الحارة؛ فبعضهم لابد أن يفتح حساب عنده للشراء بالأجل والتسديد نهاية الشهر؛ نظرًا لقلة المرتب (المعاش)، وضرورة ضبط الإنفاق، وشراء السلع حسب حاجة اليوم أو الأسبوع وليس أكثر.
هوية المكان هنا ترتبط بتفاعل السكان وليس بالجدران؛ فالمكان لايعني الكثير دون ساكنيه بهرجهم ومرجهم وصراعاتهم الصغيرة وأفراحهم وأتراحهم، وفوق ذلك حميميتهم الطاغية وشدة تفاعلهم. في تلك المرحلة لم تكن السيارة قد هيمنت على المشهد كثيرًا، بل إن من يمتلكونها كانوا قلة؛ وبالتالي كانت الحاجة ماسة للاشتراك بالسيارة الواحدة مع صاحبها عند الحاجة، وهذا سبب آخر للالتقاء والتفاعل اليومي. الجميع تقريبًا بنفس المستوى الاقتصادي، والتفاوت الحاد في الدخول بين الأسر لم يكن من سمات المرحلة.
هذه الخصائص ساعدت كثيرًا في بلورة هوية الأفراد الاجتماعية، رغم أن معظمهم ليسوا من أهل الرياض الأصليين، بل جاءوا إليها من أماكن بعيدة بغرض السكنى والعمل. كما ساهمت هذه البيئة في صهرهم في بوتقة واحدة جعلتهم يشعرون بروح المكان، وأنهم جزء لا يتجزأ منه ككتلة متماسكة ومتجانسة إلى حد كبير. يضاف إلى ذلك دور المسجد في خلق الألفة والترابط العضوي بين السكان.
ما الذي جرى لاحقًا وخلق هذه الهويات المفككة؟
أزعم أن الطفرة النفطية والتفاوت الاقتصادي الذي برز بين السكان، ومعه تباينت دخولهم قد ساهم وإلى حد كبير في خلق مسافات بين الافراد، بل إن الأحياء الجديدة التي نشأت بعد عام ١٩٧٥م أصبحت علامات على مستوى دخل ساكنيها؛ فظهرت أحياء الأغنياء وأحياء متوسطي الدخل وأصحاب الدخول المحدودة وهكذا.. صاحب كل ذلك أن انكفأ الناس على أنفسهم؛ فلدى الجميع ما يكفي وليسوا بحاجة إلى بعضهم البعض، واختفت ظاهرة الجيران الذين يطلبون من بعضهم الملح أو البصل أو حبوب النوفالجين عند إصابة أحدهم بصداع.
هنا أصبحت العزلة والوفرة سيدتا الموقف؛ لتتراجع الحميمية والتلاحم والبساطة إلى مواقع متأخرة للغاية.
الهوية الاجتماعية هنا أصبحت كما يقول زيجمونت باومان “سائلة” يصعب الإمساك بها.