“كان مِنْ أطيب ما أنعم الله به عليَّ
أنِّي قَضَيْتُ أكثر مِنْ ثلاثين سنةً أتنقَّل
مِنْ حَرَمٍ إلى حَرَم، دُونَ أنْ أنقطع عنْ وطني.
فكنْتُ أغتنم فُرَصَ العبادة وحلاوة الإيمان، مَعَ
ما وَجَدْتُ في الحرمين الشَّريفين الآمِنَيْن مِنْ
مجالسِ عِلْمٍ ثَقَّفَتِ النَّفْس. فقدْ قابلْتُ مِنْ أهل العِلْم
وطُلَّابه العدد الكثير مِمَّا يكتب الله بهم
فضل الأخْذ والتَّعلُّم، وفضل التَّعليم والإبلاغ”
محمَّد الحبيب الهيلة
عَرَفْتُ كِتابَ “التَّاريخ والمؤرِّخون بمكَّة مِنَ القرن الثَّالث الهجريّ إلى القرن الثَّالثَ عَشَر“ للعلَّامة التُّونسيّ محمَّد الحبيب الهيلة – رحمه الله – في زمنٍ قديمٍ، وَطَّنْتُ فيه النَّفْس على العناية بتاريخ الثَّقافة في البلد الحرام، مكَّة المكرَّمة، وكأنَّما قُدِّرَ لي أن يُظْهِرَني ذلك الكِتاب النَّفيس على ألفِ سنةٍ هي عُمْر “المدرسة التَّاريخيَّة” في أُمّ القُرى، دُونَ أنْ أَتَكَلَّفَ مُهِمَّةً شاقَّةً صعبةً، ما كانتْ لتُيَسِّرَ لي الظَّفَر بِطَرَفٍ مِنْها، ولوْ أردْتُ، فكان كِتاب الحبيب الهيلة واحِدًا مِنْ كُتُبٍ مُصْطَفَاةٍ ذَلَّلَتْ لي الوُقُوف على نَبْعٍ ثَرٍّ، يؤول إليه أَصْل الثَّقافة الإسلاميَّة،مهما امتدَّتْ في الأزمنة وتَبَايَنَتْ في الأمكنة، وحَمَدْتُ للعلَّامة الجليل أنْ وَقَفَ جُهْدَه، لَمَّا قَصَدَ مكَّة المكرَّمة وجامعتها، فأَخَذَ بأيدينا، وعَرَّفَنا معالم التَّاريخ والمؤرِّخين فيها، واختصَرَ على قارئٍ مِثْلي ألفَ سنةٍ مِنَ الحضارة والتَّاريخ،جَمَعَ أطرافَها كُلَّها في كِتابه العُمْدة ذلك.
غارَ اسْم محمَّد الحبيب الهيلة في عقلي ووجداني، منذ اطَّلَعْتُ على كِتابه هذا، حتَّى إذا اتَّصَلْتُ بجمهرةٍ مِنَ الكُتُب الَّتي أصدرتْها “مؤسَّسة الفُرقان للتُّراث الإسلاميّ”، مِمَّا اختُصَّ بالمدينتين المقدَّستيْن = عادَ اسْم الشَّيخ الجليل فَظَهَرَ، مَرَّةً أُخرى، في كُتُبٍ اتَّصَلَ بعضُها بفهرسة مخطوطات “مكتبة مكَّة المكرَّمة”، الكائنة في “المولد النَّبويّ الشَّريف” = أَحَدُها “قِسْم القرآن الكريم وعُلُومه”، والآخِر “قِسْم التَّاريخ”، ثُمَّ اهتديْتُ إلى كِتاب “نَيْل المُنى بذيل بُلُوغ القِرَى لتكملة إتحاف الورى“ للمؤرِّخ المكِّيّ جار الله ابن العِزِّ بن النَّجْم بن فَهْد الهاشميّ (ت 954هـ)، ورَدَّني هذا الكِتاب النَّفيس إلى العلَّامة الحبيب الهيلة الَّذي نَهَضَ بتحقيقه وإخراجه في ضَرْبٍ فريدٍ مِنَ القراءة والتَّثَبُّت، وعَرَفْتُ لهذا العالِم التُّونسيّ أياديه البيضاء على تُراث بلادنا، وأَخُصُّ مِنْه ما اتَّصَلَ بتاريخ البلد الحرام وعلمائه. حتَّى إذا كان موسم حجِّ 1422هـ،رأيْتُ العَلَّامة الجليل، في أثناء “النَّدوة الكُبْرَى” الَّتي تُقِيمها وزارة الحجّ، في زمن وزيرها إياد أمين مدنيّ = فَثُبْتُ إلى نَفْسي، وجَعَلْتُ أَسْرُد عليه ما عَرَفْتُه مِنْ مؤلَّفاته، أريد بذلك شَرَفَ الجلوس بين يَدَيْه، وأنْ أُظْهِرَ له أنِّي أَعْرِفه مِنْ قَبْلُ حَقَّ المعرفة، وكانَتْ تلك النَّدوة الَّتي جَمَعَتْني بِصَفْوةٍ مِنْ العلماء والمفكِّرين والمثقَّفين تعبيرًا عنْ رُوح الثَّقافة في مكَّة المكرَّمة، ووَجْهًا مِنْ وُجُوه “الحَجّ”، أعني بذلك ما اتَّصَلَ بالثَّقافة واجتماع علماء الأُمَّة ومثقَّفيها في ذلك الوادي المبارك،وكان لقائي بالعلَّامة الزَّيتونيّ فاتحةَ خيرٍ أتاحه لي ذلك “الموسم”، نِلْتُ فيه مِنْ عَطْفه وحَدَبه ونُصْحه لي، ما صِرْتُ أَتَمثَّله وأسعى إلى أدائه، وما كُنْتُ لِأَظُنّ أنْ ستتَّصِلُ أسبابي به، في مكَّة المكرَّمة، وفي جُدَّة، ثُمَّ في تُونُس، فَعَرَفْتُ مِنْ فَضْله ما صِرْتُ أَلْهَجُ به اليَوْمَ وكُلَّ يَوْم، ونَعِمْتُ بِصُحْبته، واستمددْتُ مِنْ عِلْمه ما قَوَّى إيماني بالثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، الَّتي كان العلَّامة الجليل واحدًا مِنْ أعلامها الكِبار في عصرنا الحاضر.
أَبْرَزُ ما امتاز به العلَّامة محمَّد الحبيب الهيلة انتسابه إلى “جامع الزَّيتونة”،قلعة العلوم العربيَّة والإسلاميَّة في تونس، وكأنَّما اصطفاه الله – تبارك وتعالَى – ونَذَرَهُ لهذا الجامع الأعظم، وكان أبوه قدْ جَمَعَ عَزْمه على أن يُسْلِمَهُ، في صِغَرِهِ، إلى “المدرسة الصَّادقيَّة”، تلك الَّتي أَهدَتْ إلى تونس والتُّونسيِّين رِجالًا يزهو بهم تاريخها، لكنَّ صاحِبَنا عارَضَ أباه، وما كان لِيُعارِضَه قَبْلَ ذاك،وأَظْهَرَ له نِيَّته في الاختلاف إلى “جامع الزَّيتونة”، فكان له ما نَوَى، فَلَمَّا تَخَرَّجَ فيه، سُلِكَ في علمائه، وهو، بَعْدُ، شابٌّ لمْ يُتِمَّ العِشْرين مِنْ عُمْره، حتَّى إذا أَحَسَّ أنَّ بلاده تونس اختلفَتْ عليها الخُطُوب، ومَسَّ شيءٌ ليس بقليلٍ معهده العريق، لِمَكانه مِنَ العُلُوم العربيَّة والإسلاميَّة = هَدَاه تفكيره إلى الاتِّصال بِعُلُوم الغرب، فغادر الشَّابُّ محمَّد الحبيب الهيلة وطنه، قاصِدًا باريس، وانتسب إلى جامعة السُّوربون، وقَدَّمَ فيها رسالةً في التَّاريخ الأندلسيّ، اجتازَ بها دكتوراه الجامعة، عام 1387هـ=1967م، ثُمَّ عاد فَقَدَّمَ رسالة أخرى اجتاز بها دكتوراه الدَّولة في التَّاريخ الاجتماعيّ للمغرب الأدنَى (إفريقية)، عام 1396هـ=1976م،في حديثٍ ماتِعٍ قَصَّ طَرَفًا مِنْه في “اثنينيَّة عبد المقصود خوجه” بمدينة جُدَّة،عام 1430هـ. فَلَمَّا آبَ الزَّيتونيّ إلى بلاده، شارَفَ البَحْثَ والتَّأليف والتَّعليم،يُعِينُهُ على ذلك عُلُوم “جامع الزَّيتونة” ومنهج “جامعة السُّوربون”!
ليس في سِيرة العلَّامة محمَّد الحبيب الهيلة ما يُبَايِن سِيَر أشياخه وأنداده مِنْ حَمَلَة العِلْم في “جامع الزَّيتونة”، وكأنَّما كانَتْ سِيرته هي جامِع سِيَر علماء “الجامع الأعظم” في ثلاثةَ عَشَرَ قرنًا، هي عُمْر هذا الجامع والجامعة، وأنتَ تَعْرِف أنَّ سِيرة العالِم العربيَّ المسلِم في تاريخنا القديم، وطَرَفٍ مِنْ تاريخنا الحديث = إنَّما هي سِيرة عِلْمٍ، وتَلَقٍّ، وأشياخٍ، وإجازاتٍ، وأندادٍ، وتلاميذَ،وتعليمٍ، وتأليف، يستوي في ذلك محمَّد الحبيب الهيلة في تونس، وعبد الوهَّاب أبو سليمان في مكَّة، وأحمد الطَّيِّب في القاهرة، وآخرون في جِهَاتٍ مختلفات،ولا يُخامِرُني شَكٌّ أنَّنا لو استوفَيْنا ترجمة شيخنا الزَّيتونيّ، لأَظْهَرَتْ لنا أنَّه لا اختلافَ في تَلَقِّيه للعِلْم، في القرن الرَّابِعَ عشرَ للهجرة، عنْ أشياخه وأشياخ أشياخه، ما بين القرنين الثَّاني الهجريّ، وحتَّى الزَّمن الَّذي غَشِيَ فيه أروقة ذلك الجامع العتيق، وكأنَّما كان العلَّامة الجليل يعيد علينا بعض ما نَعْرِفه مِنْ تراجم علماء الأمصار، منذ تَنَبَّه المؤرِّخون إلى خَطَر هذا الضَّرْب مِنَ التَّأليف، فإذا فَتَّشْنا، في أثناء هذا اللَّوْن مِنَ التَّأليف الإسلاميّ، ولاءَمْنا بين الأشباه والنَّظائر = أدركْنا أنَّ للعِلْم العربيِّ الإسلاميِّ “شَجَرَةً” ينتسبُ فيها العالِم إلى آبائه في العِلْم، في بلاده وما حولها، ويَغُور في التَّاريخ، قَرْنًا فَقَرْنًا، حتَّى يبلغ آباءَه الأَعْلَيْن في المدينة النَّبويَّة المنوَّرة، وإنْ شِئْتَ في مكَّة المكرَّمة، ذلك أنَّه بِمقدورنا أنْ نَرْفَع محمَّد الحبيب الهيلة إلى “المِصْر” الَّذي يعتزي إليه وهو “تونس”،والجامع الَّذي اختلف إليه وهو “الزَّيتونة”، على أنَّ تلك الأمصار ترمي ببصرها، جميعها إلى المدينتين المقدَّستين، وتَصِل نَسَبَها العِلْمِيّ بمسجديها الشَّريفين،فإذا أَقْبَلْنا على كُتُب “علماء الأمصار”، ولنا مِنْها قَدْرٌ صالحٌ، عَرَفْنا “خريطة”العِلْم الإسلاميّ، تلك الَّتي تبدأ بجيل الصَّحابة، رضوان الله عليهم، ثُمَّ ما تلبث أنْ تمتدَّ في الزَّمان، وتوغِل في المكان، حتَّى تَبْلُغ المغرب الأدنَى – أوْ إفريقية –فإذا بَلَغْنا ذلك “المِصْر”، إذا بنا نقرأ في علماء “جامع الزَّيتونة” اسْم شيخنا العلَّامة محمَّد الحبيب الهيلة.
قال العلَّامة محمَّد الحبيب الهيلة، ليلة تكريمه في جُدَّة: إنَّه أدركَ منزلة مكَّة المكرَّمة، منذ كان صغيرًا. كان الطِّفْل يُدِيم النَّظَر في هيئة أبيه، وهو يتَّجه في صلاته إلى البيت العتيق؛ في البلد الحرام، وعساه آثَرَ، منذ تلك اللَّحظة، أن يُسْلَكَ في “الزَّيتونيِّين”، ففي الجامع المبارك أَثَرٌ مِنَ الحَرَم المكِّيّ الشَّريف، وفي عُلُومه الَّتي يتلقَّاها التَّلاميذ نَفْحةٌ مِنْ أروقته، ولَعَلَّه ما قَدَّرَ أنْ سيكون، ذات يَوْمٍ،واحدًا مِنَ المجاورين فيه، وأستاذًا في جامعة أُمّ القرى، كما كان لِأسلافٍ له مِنْ علماء تونس – أوْ إفريقية – رحلةٌ إلى البلد الحرام، ومجاورةٌ، وتلمذةٌ، وأشياخٌ،وكُتُبٌ، ورسائلُ، وإجازات!
عُنِيَ محمَّد الحبيب الهيلة بِكُتُب المذهب المالكيّ وما يَمُتُّ بها مِنْ مُصَنَّفات،فكان الشَّيخ الفقيه المؤرِّخ، فإذا رَجَعْنا البَصَرَ في ما أدَّاه إلينا أسلافٌ له في بلاده تونس، بلْ وفي الجزائر والمغرب وبلاد شنقيط، وما اتَّصَلَ بها مِنْ أقطار =قَوَّى ذلك، عندنا، ما نَعْتَدُّه “اتِّصالًا ثقافيًّا”، لا سبيل فيه إلى “القطيعة” عنْ شجرة العِلْم الإسلاميّ، وكأنَّ “المُدَوَّنة”، وما اتَّصَلَ بها مِنْ “شُرُوحٍ”،و”حَوَاشٍ”، و”تعليقات”، إنَّما تُوْمِئ إلى “أُصُول” تلك الثَّقافة، الَّتي هي كـ”الجُذُور”، مهما أَعْرَضْنا، اليَوْمَ، عنْ ذلك الضَّرْب مِنَ التَّأليف، وظَنَنَّاهُ تكرارًا ومجافاةً للإبداع والتَّجديد، على أنَّ شيخنا الهيلة استعان على ذلك التَّاريخ وتلك المُدَوَّنات، بـ“ثقافة الزَّيتونيّ” و”منهج السُّوربونيّ”، ودُونَكَ أيَّ كِتابٍ مِنْ كُتُبه، ولا سِيَّما ما اتَّصَلَ بكُتُب “الفتاوي” و”النَّوازل”، واقرأْ مُقَدِّمات تلك الكُتُب تَعْرِفْ كيف نَزَّلَ هذا الزَّيتونيّ العريق “الفتاوي” و”النَّوازل” على التَّاريخ،بمنهج “السُّوربونيّ”، وعسانا نَعْتَدُّ هاتَيْن “الثَّقافتين” جديدَ هذا الجِيل الَّذي انتسب إليه محمَّد الحبيب الهيلة، منذ أَخَذَ المُصْلِحُون التُّونسيُّون، وأغلبُهُم زيتونيُّون ينادون بالإصلاح والتَّجديد، وكان لصحيفة “العروة الوثقى“ الَّتي أنشأها المصلحان الكبيران جمال الدِّين الأفغانيّ ومحمَّد عبده في باريس =أَثَرٌ أيُّ أَثَر في عُقُول قَبِيلٍ مِنَ التُّونسيِّين وأفئدتهم، على أنَّ تاريخ تونس الحديث ليس ينسى أنَّ الأستاذ الإمام محمَّد عبده زار الحاضرة التُّونسيَّة، مَرَّتين،الأولى عام 1302هـ=1884م، والأخرى عام 1321هـ=1903م، ولا يستطيع هذا الفصل الإحاطة بأَثَر هاتين الزَّورتين، وفي ما أَدَّاهُ إلينا كِتاب “الحركة الأدبيَّة والفكريَّة في تونس“ للعلَّامة محمَّد الفاضل بن عاشور غَنَاء، وفيه بَسَطَ الحديث عنْ إصلاح “الزَّيتونة”، و”المدرسة الصَّادقيَّة”، و”الجمعيَّة الخلدونيَّة”، وفيه كلامٌ يحسن الاطِّلاع عليه عنْ ألوان الإصلاح الَّتي قادها محمَّد السّنوسيّ، وسالم بو حاجب، ومحمَّد النَّخْليّ، والبشير صفر، وعبد العزيز الثَّعالبيّ، ومحمَّد الطَّاهر بن عاشور وآخرون. أمَّا مجلَّة “المنار“، فلها في تونس مَقامٌ سَنِيّ، ويكفيها أنَّها زادتْ “اللَّهَب وَقُودًا”، كما هي عِبارة محمَّد الفاضل بن عاشور!
ما مضى كان إلماحةً إلى البيئة الثَّقافيَّة والعِلْمِيَّة في تونس، ألممْنا بها لِنَعْرِف أنَّ “جامع الزَّيتونة” لمْ يَكُنْ بمنجاةٍ مِنَ “التَّجديد”، وأنَّ شيئًا مِنْه مَسَّ الشُّيُوخ والطُّلَّاب، وكان محمَّد الحبيب الهيلة واحدًا مِنْهم. على أنَّه ينبغي لنا أنْ نرى في الفقيه المؤرِّخ، في القرن الرَّابِعَ عَشَرَ الهجريّ، استردادًا لِأَثَرِ فقيهٍ مؤرِّخٍ تونسيٍّ مِنْ أسلافه، هو أبو زيد عبد الرَّحمن بن خلدون التُّونسيّ الحضرميّ، في القرن الثَّامِن الهجريّ وأوَّل التَّاسِع، وعَوْدًا حميدًا إلى “مُقَدِّمته” وفلسفته التَّاريخيَّة!
يُتْبَع،،