المقالات

محمَّد الحبيب الهيلة.. مُجَاوِرٌ بالبيت العتيق (٢-٢)

    وَفَدَ محمَّد الحبيب الهيلة إلى المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، عام 1405هـ=1985م، واطمأنَّ به المقام بمكَّة المكرَّمة، وتَوَلَّى تدريس التَّاريخ والحضارة الإسلاميَّة في جامعة أُمّ القرى، ولَبِثَ في البلد الحرام زُهاءَ اثني عَشَرَ عامًا، قضاها أستاذًا محاضرًا، وباحثًا، ومشرفًا على أطاريح طُلَّابه وطالباته، ومفتِّشًا ومُنَقِّبًا في التُّراث التَّاريخيّ للبلد الحرام، ثُمَّ عاد إلى تونس،فَلَمَّا أَخَذَتِ الجامعة الإسلاميَّة تستبدل الجديد بالقديم، وتُصْلِح هيئتها، كان الشَّيخ الزَّيتونيّ أستاذًا زائرًا في المدينة النَّبويَّة المنوَّرة، وما كان ارتفاع سِنِّه لِيَصْرِفَه عن البحث والتَّأليف، فوضع كِتابًا في مؤرِّخي المدينة يُشْبِه كِتابه عنْ مؤرِّخي مكَّة في العنوان والمنهج والرُّوح.

    وبِوُسْع مترجِم العلَّامة محمَّد الحبيب الهيلة أنْ لا يرى في الاثني عَشَرَ عامًا الَّتي أمضاها في مكَّة المكرَّمة، إلَّا صورة أستاذِ جامعةٍ عربيٍّ، أنفق حِينًا مِنَ الزَّمان في جامعتها، فَلَمَّا استوفَى عَقْده، قَفَلَ عائدًا إلى وطنه، ولا غرابة في ذلك، وهو يُشْبِه أُلُوف الأساتذة والأطبَّاء والمهندسين والمُعَلِّمين، الَّذين سيكتب غير واحدٍ مِنْهم في مكانٍ مَّا مِنْ ترجمته: أنَّه عَمِلَ، مُدَّةً مِنَ الزَّمان، في مكَّة المكرَّمة، أوْ جُدَّة، أو الرِّياض، أوْ ما شاءَ مِنَ مُدُن البلاد السُّعُوديَّة! ليس في ذلك جديدٌ يُذْكَر، ولا حِكْمةٌ تُستفاد!

    لكنَّ ذلك لا يَصْدُق في العلَّامة محمَّد الحبيب الهيلة، مهما أَلَّفَ في تاريخ مكَّة المكرَّمة، ومهما حَقَّقَ وأخرجَ مِنْ مُصَنَّفات، لا يُبَايِن، في ذلك، أساتذةً اتَّصلُوا بجامعاتنا، وأشياخًا قَضَوْا بين ظهرانينا أَمَدًا طويلًا أوْ قصيرًا، ما لمْ يبلغوا مِنْ أسباب العيش في مكَّة بعض ما بلغه الشَّيخ الزَّيتونيّ.

    أعود، ثانيةً، إلى “شَجَرَة العِلْم الإسلاميّ”، إلى ذلك الأصْل الَّذي لَعَلَّنا لا نستبينه، بادِيَ الرَّأْي، لكنَّه يَصِل “الزَّيتونة” و”الأزهر” و”القرويِّين”،و”الأُمَوِيّ”، وما شِئْنا مِنْ معاهد العِلْم في دُنيا الإسلام = بمعاهد العِلْم بالحرمين الشَّريفين، ويَعْلُو فَيَعْبُر بنا القُرُونَ والآمادَ، ويُذْكِرُنا بِمُصَنَّفاتٍ وَقَفَها أصحابُها على “عُلَماء الأمصار”، نَتَتَبَّعهم، مهما تراخَتِ الأزمنة وتَبَاعَدَتِ الأمكنة، وإذا بالخَالِف يُوْمِئ إلى السَّالِف، وإذا بـ“جامع الزَّيتونة” يَمُدُّ بَصَرَه إلى “الحرمَيْن الشَّريفين”، وإذا بمحمَّد الحبيب الهيلة، في القرن الخامِسَ عَشَرَ الهجريّ، كأنَّما يَسْتَرِدُّ هيئة بَلَدِيِّهِ محمَّد بن جابر الوادي آشيّ (673-749هـ)،شيخ المُحَدِّثين في تونس = طَوَّفَ بالأرض، وجاوَرَ، مُدَّةً مِنَ الزَّمان، بالبيت العتيق، وأجازَ وأُجِيزَ، وساغَ أن يُعْنَى خَلَفُهُ التُّونسيّ الزَّيتونيّ بـ“برنامج شُيُوخ الوادي آشيّ“، فينشره مُحَقَّقًا، في مكَّة المكرَّمة، عام 1401هـ=1981م، قَبْلَ أن يَنْزِلَ ببطحائها المباركة، وقَبْلَ أن يتولَّى التَّدريس في جامعتها، فَلَمَّا أَمَّها، عام 1405هـ=1985م، سَمَّى نَفْسه مُجَاوِرًا بالبيت العتيق، كما كان أسلافٌ له وشُيُوخ.  

د. محمد الحبيب الهيلة

    قال محمَّد الحبيب الهيلة: إنَّه أدرك، في طُفُولته، معنى أن يَتَّجِهَ نَحْوَ الشَّرْق،إلى البيت العتيق، في مكَّة المكرَّمة، وعَسَاهُ ما قَدَّرَ أنْ سيُشارِف تلك الأرض المُبارَكة، ويتَّخذها دارًا وسَكَنًا اثنَيْ عَشَرَ عامًا، حتَّى إذا نَزَلَ بِساحتها، أَشْبَهَتْ وِفادته في القرن الخامِسَ عَشَرَ للهجرة، وفادة الإمام شمس الدِّين السَّخَاوِيّعلى المدينتين المقدَّستين، في القرن التَّاسِع، وضارَعَ الأثَرَ الَّذي أَدَّاهُ الشَّيخ المصريّ إلى معاهد العِلْم هُناك، جَلَسَ كلاهما للتَّعليم، وقَصَدَهُما النَّاس، وأثارا العِلْم فيهما، فَأُلِّفَتْ كُتُبٌ، وأُجِيزَ أشياخٌ وأنداد، وكانَ طُلَّابٌ ومُريدون!

    كان وِفادة محمَّد الحبيب الهيلة إلى مكَّة المكرَّمة، وتَوَلِّيه التَّدريس في جامعتها، في حاجَةٍ إلى تَأَمُّلِ واحدٍ مِنْ أَهْل النَّظَر، إلى واحدٍ يَعْدُو في نُزُول شيخٍ تونسيٍّ البلدَ الحرامَ، ظاهِرَ الأمر مُرِيدًا باطِنَه، ولَعَلَّه احتاجَ إلى شخْصٍ يُماثِله في “المرتبة” و”الثَّقافة” و”الغاية”، وكان العلَّامة المكِّيُّ عبد الوهَّاب أبو سليمان، وَحْدَهُ، الَّذي أدرك في مُكُوث شيخٍ تونسيٍّ زيتونيٍّ، في البلد الحرام،كُلَّ تلك المُدَّة = أمرًا يَجُوزُ الوظيفةَ والجامعةَ والتَّدريس.

    اتَّصَلَتْ أسباب محمَّد الحبيب الهيلة “الزَّيتونيّ” بجمهرةٍ مِنْ علماء مكَّة المكرَّمة وأهْل العِلْم فيها، مِنْهم الشَّيخ الجليل عبد الوهَّاب أبو سليمان “الحَرَمِيّ”، وكان “الفقهُ المالكيّ”، و”تاريخُ مكَّة المكرَّمة” وهُمُومُ صناعة الفقه والتَّدريس والتَّأليف = قَمِينةً بأنْ تؤلِّفَ بين الشَّيْخَيْن، وما كان لِيَغِيب عنْ أبي سليمان أنَّ نُزُول محمَّد الحبيب الهيلة بمكَّة المكرَّمة، إنَّما هو مِنْ آثار تلك الصِّلَة القديمة الَّتي وَصَلَتْ “جامع الزَّيتونة” بـ“الحرم المكِّيّ الشَّريف” = وحلقةٌ مِنْ حلقات اتِّصال العلوم الإسلاميَّة ما بين “الأمصار”، ولمْ يَرَ عبد الوهَّاب أبو سليمان في المؤلَّفات الَّتي أخرجَها محمَّد الحبيب الهيلة في تاريخ البلد الحرام ومؤرِّخيه = كُتُبًا انقطعَ لها أستاذٌ جامعيٌّ، حِينًا مِنَ الزَّمان، ثُمَّ دَفَعَ بها إلى المطبعة، واستراحَ بَعْدَها ومضى إلى شأنه! لكنَّه أدركَ شيئًا آخَرَ، هو أعلى مرتبةً مِنَ “التَّدريس” و”التَّأليف”، على جلالهما؛ أدركَ تاريخًا مشتركًا، وثقافةً جامعةً، وعُلُومًا أَسْلَمَها السَّلَفُ إلى الخَلَف.

الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان

    قال العلَّامة الشَّيخ عبد الوهَّاب أبو سليمان في حَفْل جُدَّة: إنَّ ثلاثةً مِنَ العُلماء “الزَّيتونيِّين” كانوا، في عَصْرنا الحاضر، رُمُوزَ العلاقة الأَزَلِيَّة بين جامع الزَّيتونة وبلاد الحرمين الشَّريفين: هُمْ محمَّد الحبيب بلخوجه، ومحمَّد أبو الأجفان، ومحمَّد الحبيب الهيلة، وقال أبو سليمان: إنَّ هذا الأخير هو مَن اكتشَفَ “المدرسة التَّاريخيَّة المكِّيَّة”، في كِتابه “التَّاريخ والمؤرِّخون بمكَّة،مِنَ القَرْن الثَّالث الهِجْرِيّ إلى القرن الثَّالثَ عَشَرَ“، وهو الَّذي جَلَا خصائصها المنهجيَّة والعِلْمِيَّة، فكان كِتابه، عند أبي سليمان، إنجازًا، يُوْشِكُ أن يكون “فَتْحًا عِلْمِيًّا”.

    ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ،

    فَعِنْدَ التُّونسيِّين أنَّ محمَّد الحبيب الهيلة هو آخِر “العُلَماء الزَّيتونيِّين”،يريدون بذلك أنَّ الشَّيخ الجليل بَقِيَّة العلماء الَّذين اتَّصَلَتْ أسبابهم بِنَمَطٍ سادَ الحياة العِلْمِيَّة الإسلاميَّة قُرونًا عِدَّة، ثُمَّ لمْ يلبثْ أنْ ذَوَى بريقه، وفَتَرَ أَثَرُهُ لِمَكان “الدَّوْلة الوطنيَّة”، تلك الَّتي عَرَفَها العالَم العربيّ الحديث. على أنَّ الهيلة كأنَّما أَحَسَّ، منذ شبابه، تلك الصُّرُوف الَّتي أَلَمَّتْ بمعاهد العِلْم في تونس، وكان غِشْيانه أروقة “السُّوربون”، وظَفَره بِشَهادَتَيْها الرَّفيعتين كأنَّهما يُضْمِران فَزَعَه مِنْ ضياع عُلُومٍ، كانَتْ، رُغْمَ مُحافظتها وتقليديَّتها، علامةً على “ثقافة الأمصار”، تلك الَّتي قامَ عليها “الزَّيتونة”؛ جامِع تونس الأعظم، مهما تَرَاخَتِ الأزمنة وتَبَاعَدَتِ الأمكنة، وكأنَّما كان لِسَان حاله كلمة لأمير الشُّعراء أحمد شوقيّ، قالها في حَقِّ “الجامع الأزهر”، وأراها تَصْدق في شقيقه “جامع الزَّيتونة”:

وَاذْكُرْهُ، بَعْدَ المَسْجِدَيْنِ، مُعَظِّمًا   لِمَسَاجِدِ اللهِ الثَّلَاثَةِ مُكْبِرَا

وَاخْضَعْ مَلِيًّا، وَاقْضِ حَقَّ أَئِمَّةٍ   طَلَعُوا بِهِ زَهْرًا وَمَاجُوا أَبْحُرَا

    رَحِمَ اللهُ الشَّيخَ العلَّامةَ محمَّد الحبيب الهيلة، التُّونسيَّ المكِّيَّ المدنيَّ وجَزَاهُ الله عنَّا خير الجزاء!

تَمَّ بحمد الله

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button