المقالات

العنف الرمزي

يشير هذا المفهوم الذي ذاع في العقود الأخيرة بعد أن استخدمه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو إلى العنف الخفي والمستتر الذي يتمظهر بعدة صور غير مباشرة، لكنه متفشٍ دون أن يشعر الفرد بوجوده أو أنه ضحية له. ويندرج هذا العنف ضمن ظاهرة الهيمنة والصراع الاجتماعي الذي يشيع في المجتمعات الرأسمالية ذات الإنتاج الوفير.

وبسبب تعدد صور العنف الرمزي؛ فإنه مما يلفت الانتباه العنف الذي تمارسه وسائل الإعلام تحديدًا؛ وخاصة على المستهلك من خلال الإعلان التجاري بهدف إقناعه بأهمية سلعة ما وضرورة اقتناؤها حتى مع عدم الحاجة إليها. وحقيقة فإن الإعلان التجاري لايعدو أن يكون عنفًا رمزيًا بسبب نهم المنتجين، ورغبتهم في بيع سلع قد لا تكون ضرورية أو أن لها بدائل محلية. ويمكن بهذا الخصوص التذكير بظاهرة الولع بما يسمى “بالمستورد” من السلع مقابل السلع المحلية؛ فالمستورد لابد أن يكون هو الأفضل حتى لو كان المنتج المحلي ذا جودة عالية. 

وتلعب الإعلانات التجارية المتقنة   ads والتي تدغدغ المشاعر دورًا حاسمًا في ترسيخ أفضلية المنتج الأجنبي بسبب قوة الإعلان وتكراره على مرأى ومسمع المستهلك في وسائل الإعلام التي تقتات هي الأخرى على الإعلانات التجارية كمصدر دخل لها.

العنف الرمزي الذي يمارسه الإعلان التجاري هنا يكمن في مسألتين: الحط من قيمة المنتج المحلي والوطني أو المنتج البديل مما يعد خسارة وطنية، وممارسة الخداع على المستهلك بخلق شعور لديه أن عدم امتلاكه المستورد يعني أنه أقل من غيره، وأنه محروم بسبب عدم قدرته على شراء هذا المنتج أو امتلاكه. العنف الرمزي هنا واضح في مسألة الشعور بالحرمان، وترسيخه عند المستهلك الذي “قد” لايحتاج ذلك المنتج. ترتب على  هذا المنطق شيوع فكرة “الماركة” أو “البراند” لكثير من السلع وأن ماعداها من سلع يعد “وضيعًا أو رخيصًا” وأن امتلاك الرخيص يعكس شخصية من يقتنيه؛ بحيث يتم ربط الوضاعة أو الرخص بما نقتنيه من سلع. الإعلان بذلك “رسمل” الإنسان، واختزله إلى كائن مستهلك، وأن قيمته تخضع لقيم السوق كالعرض والطلب، والموضة وانتهاء الصلاحية؛ تمامًا كاللبن والحليب والأحذية الرياضية.

جانب آخر للعنف الرمزي يتمثل في التركيز على المرأة الجميلة ممشوقة القوام في الإعلان، وعدم اللجوء إلى سيدات متوسطات الجمال، وربات بيوت عاديات ممتلئات ممن تزيد أوزانهن بمرور الوقت. هذه السيدات يتم تغييبهن في الإعلان عادة باستثناء إعلانات مساحيق الصابون، وسلع أخرى نادرة تخدم الإعلان؛ لزيادة الواقعية بغرض الإقناع ولدواعي التسويق بالطبع. جانب العنف في هذه القضية يتمثل بأن ظهور فتيات الإعلانات الجميلات ربما خلق إيحاء عند المشاهدات العاديات بمقدار دمامتهن حتى لو كن جميلات ومقبولات الشكل. النتيجة الحتمية: لتولد هذا الشعور سيدفع بالبعض إلى “العمل على جسمها”؛ لكي تبدو جميلة بل إنها ستجهد في هذا الجانب بصورة مرضية (من مرض)؛ لكي تكون فاتنة وهيفاء بعين كل من يراها. العنف الإضافي في هذه المسألة هو أن هذه السيدة ستضطر لشراء سلع جديدة؛ كالملابس وأدوات التجميل والمساحيق، وربما لجأت إلى عمليات تجميل ليست بحاجة إليها مما يستنزفها ماليًا وبدنيًا وأسريًا، مايعني في النهاية اكتمال دائرة العنف الرمزي الذي تحدث عنه بيير بورديو.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button